إن حرب المعلومات تعتبر لعبة جديدة وفريدة من نوعها على البيئة الاستخبارية، ويعزى هذا التفرّد إلى قلة أو ندرة المعلومات التي يمكن الأخذ بها لمعرفة أنماط نشاطات هذه الحرب، وقد أدى ذلك إلى بروز العديد من الصعوبات، بسبب تعدد المؤشرات حيال ذلك، ففي حرب المعلومات، وعلى أقل تقدير في نظم المعلومات والشبكات، فإن أدلة هذه الحرب تصنّف بأنها حرب عابرة على أفضل تقدير، ومن الصعب ملاحظتها بالمفهوم المادي.
القوى العظمى والفشل الاستخباراتي
سوف يأخذ فشل عمل أجهزة المخابرات بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية موقعاً هاماً في تاريخ الإخفاقات البارزة في جمع المعلومات الاستخباراتية؛ وبالرجوع بالذاكرة إلى الوراء نجد أن هذا الفشل يمتد من الحصان الخشبي في طروادة إلى رفض (ستالين) في العصر الحديث تصديق أن (ألمانيا) ستغزو الاتحاد السوفيتي عام 1941م، والاعتقاد البريطاني بأنهم تلقّوا تحذيراً من غزو أرجنتيني لجزر (فولكلاند) عام 1982م، وقد فشلت المخابرات أيضاً في التحذير من وقف الضربتين الجريئتين المفاجئتين ضد الولايات المتحدة في (بيرل هاربور) في عام 1941م، وفي 11 سبتمبر 2001م.
ويمكن إيجاز أسباب الفشل الاستخباراتي وتصنيفها إلى عدد من الأصناف
أولاً: المغالاة في التقدير
ويتميز هذا بالتصميم على المغالاة في تأكيد المعلومات بما يؤدي بدوره إلى استنتاج خاطئ، وقد فصّلت لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ كيف حدث هذا بشأن العراق، لكن هناك مثال آخر على هذا، وهو ما كاد أن يؤدي إلى وقوع كارثة خلال الحرب الباردة، وعرفت هذه الكارثة حينها بعملية ريان (Ryan)، وهي كلمة روسية تشكّل الحروف الأولى لجملة (راكيتنو ياديرنوي ناباديني) وتعني هجوم نووي بالصواريخ، وريان هي عملية قام بها جهاز المخابرات السوفيتية (KGB) متصوّراً أن شيئاً ما "سيحدث من تلقاء نفسه"، والذي حدث هو غزو جزر (الفوكلاند)، ثم حرب دموية صغيرة .
لكن تحقيقاً أجراه (اللورد فرانكس) وهو دبلوماسي سابق أوضح أنه لا يمكن إلقاء اللائمة على الحكومة البريطانية في ذلك الوقت، لأن (الأرجنتين) تصرفت بشكل غير لائق متوقع.
وحدث شيء مماثل عندما قام الرئيس العراقي المخلوع (صدام حسين) بغزو الكويت في عام 1990م، فقد اعتقد الناس أنه سيفعل ذلك لكنهم أملوا في ألاّ يفعل، ومن ثم لم يفعلوا شيئاً مقابل ذلك، وإجمالاً فإن الأمر يتضمن أيضاً الخوف من الأسوأ عندما يطلق ديكتاتور تهديدات ويحرّك الجيوش.
ثانياً: الجهل
عندما لا تتوافر من الناحية العملية معلومات استخباراتية، فأنت حينئذٍ تحت رحمة الأحداث، وفي عام 1941م، رغم أنه كانت هناك إشارات لنيات يابانية عدوانية تجاه الولايات المتحدة، فإن أحداً في المواقع القيادية الأمريكية لم يكن يتوقع الهجوم على (بيرل هاربور)، ولكن الهجوم حدث، وقد نفّذت العملية بمهارة ومباغتة. وكان ذلك في أوائل الثمانينيات، عندما كان (رونالد ريجان) رئيساً لأمريكا، لكن هذا لا يعني أن الجهل يمكن أن يكون مبرراً لعدم التحرك.
وقامت المخابرات السوفيتية بهذه العملية خشية أن تكون الولايات المتحدة قد تأهّبت لشن هجوم بالصواريخ على الاتحاد السوفيتي، فقد تلقى عملاء (kgb) في مختلف أنحاء العالم أوامر بالحصول على معلومات عن النشاطات العسكرية غير العادية وبالطبع اكتشافها أو الإبلاغ عنه. وفي كتابهم: (المخابرات الروسية: القصة من الداخل)، أعطى المنشق عن الاستخبارات الروسية (جورديفسكي) وكاتب قصص الجاسوسية (كريستو اندرو) صورة كوميدية تصرف عملاء المخابرات السوفيتية الذين أفادوا عن إشارات من عيّنة بقاء الأضواء حتى أوقات متأخرة بشكل غير معتاد في أماكن مثل وزارة الخارجية البريطانية، ولحسن الحظ كان ل (جورديفسكي) الفضل في تحذير الغرب من موقف الاتحاد السوفيتي، وصدرت الإشارات المطمئنة وتمَّ تجنّب الخطر .
ثالثاً: التقليل من شأن المعلومات :
هذه هي الحالة التي تخطئ فيها أجهزة المخابرات أو القيادة السياسية في قراءة كاملة لنوايا العدو، وفي عام 1941م، اقتنع (ستالين) جداً بأن (هتلر) لن يغزو الاتحاد السوفيتي، على الرغم من وجود إشارات عسكرية قوية على ذلك، ورغم التحذيرات الملحّة من بريطانيا والولايات المتحدة، حتى أن (تشرشل) نقل إلى السوفييت بعض المعلومات الاستخبارية التي حصل عليها من المعلومات السرية للغاية، والخاصة بقراءة الشفرات الألمانية، والتي أفادت بأن ألمانيا نشرت تشكيلات مسلحة جديدة في جنوب (بولندا)، وكان هناك أيضاً جاسوس سوفيتي في (سويسرا) أرسل إلى موسكو الموعد الذي سيبدأ فيه الغزو في 22 يونيو - حزيران، ولم يهتم (ستالين) بأن يعرف، وحتى هذا اليوم لا أحد يعرف حقيقة السبب في ذلك، ويرتبط هذا بشكل وثيق بالتصنيف القادم ألا وهو الإخفاقات الناتجة عن الثقة الزائدة.
رابعاً: الثقة الزائدة
هنا يكون أحد الجوانب واثق جداً من قدراته لدرجة أنه يسقط المنطق الذي يفكّر هو به على الطرف الآخر، ومن ثم يعتقد أنه مادام المنطق الذي يقيس به الأمور سيجعله يحجم عن تصرّف ما، فمن الضروري أن الطرف الآخر أيضاً سيفكر بالطريقة نفسها.
وتُعدّ حرب (يوم الغفران) في أكتوبر 1973م أفضل مثال تقليدي على هذه الثقة الزائدة، فقد كان لدى الإسرائيليين "تصوّر" بأن مصر لن تستطيع أن تفوز بالمعركة، ومن ثم فإنها لن تبادر بشن حرب، وفي الحقيقة كان لدى مصر هدف أكثر تحديداً بتشييد جسر عبر قناة السويس وتحويل هذا إلى انتصار دبلوماسي، وفعلت هذا. وانتقدت لجنة التحقيقات الإسرائيلية من جانبها "التصوّر"، واستقالت على إثره رئيسة الوزراء (جولدا مائير).
خامساً: الاسترخاء
يحدث هذا عادة عندما تعرف أن العدو ربما يفعل شيئاً لكنك لا تعلم كيف ولا متي، ثم لا تفعل شيئاً. وعانى البريطانيون من هذا في جزر (فوكلاند) في عام 1982م، فقد قال العسكر الأرجنتينيون بوضوح أنهم يسعون إلى الحصول على الاستقلال، لكن حتى عندما انهارت المفاوضات في أوائل عام 1982م، لم تفعل بريطانيا شيئاً لمنع الغزو.
وأطلق السفير البريطاني في (بيونس ايريس) على هذه الخطوة سياسة (ميكاوبر) على غرار الشخصية التي صوّرها الروائي الإنجليزي (تشارلز ديكنز). . وقد أصدر الكونجرس الأمريكي تقريراً لاذعاً بسبب افتقار ميناء (بيرل هاربور) نفسه إلى المعدات اللازمة للوقاية من احتمال التعرُّض لأي هجوم، فقد سجّلت محطة الرادار اقتراب طائرة يابانية، ولم يتمكن أحد من إعاقة الإشارات ولم تكن هناك طائرة مستعدة للرد عليهم.
سادساً: عدم القدرة على وصل النقاط ببعضها
هذا هو الفشل في إقامة رابط بين معلومات استخباراتية متناثرة من أجل تكوين صورة متماسكة متكاملة، ومثل تلك الصور المتكاملة صعبة التكوين أثناء وقوع الأحداث، وإن كانت تبدو بعد وقوعها وكأنها كانت واضحة ومفهومة وسهلة الاكتشاف؛ فقد تمثَّل أحد الاتهامات الرئيسة ضد وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي بعد 11 سبتمبر في أنهما فشلا في ربط المعلومات ببعضها، مثل وجود عدة مشتبه بهم في الولايات المتحدة في الوقت نفسه، وإقبال عدد غير طبيعي من الرجال من الشرق الأوسط على تلقي دروس في الطيران، بالإضافة إلى ما ُعرف عن تفكير القاعدة في تكتيك استخدام الطائرات.
وفي النهاية ، لنا كلمة مع ذلك الحصان الخشبي الذي أشرنا إليه، في البداية حصان طروادة ربما يكون حصان طروادة هذا أسطورة، لكن هناك درساً يجب أن نتعلمه منها، المشكلة هنا أننا لا نتعلم من الدروس وهذا هو سبب زيادة الفشل في جمع المعلومات الاستخبارية .