عبد الله أمين يكتب: تراجع ثقة الجمهور الإسرائيلي بالجيش... قراءة في الموقف والمحركات — شؤون عسكرية وأمنية

عبد الله أمين يكتب: تراجع ثقة الجمهور الإسرائيلي بالجيش... قراءة في الموقف والمحركات

عبد-الله-أمين-يكتب-تراجع-ثقة-الجمهور-الإسرائيلي-بالجيش-قراءة-الموقف-المحركات

أولاً: في التأصيل:

في التأصيل لأصل هذا الموضوع؛ لابد لنا من التطرق إلى الـ ( النظريات) أو المنطلقات التي تحمل الدول على بناء جيوش ومؤسسات أمنية، تخصص لها القدرات وتمنحها من الصلاحيات- حمل السلاح واستخدام القوة الخشنة- ما تمنعه عن باقي مكونات الشعب، وأقشار المجتمع المختلفة، فالدول من حيث الموقف الكلي، إما دولة لا تملك أعداءً ولا خصوم أو منافسين، وهذه وضعية غير موجودة، فليس هناك دول بلا أعداء أو خصوم أو منافسين، أو قد تكون الدولة ذات أعداء أو عدو واضح العداء، يطمع في أراضيها وما تكتنزه من موارد بشرية أو مادية، بحيث يعمل هؤلاء الأعداء أو ذاك العدو على التعرض لتلك الدولة، ومحاولة غصب ما يستطيع من تلك الموارد، وبين هذين الموقفين- بلا أعداءٍ ظاهري العداء أو مع أعداء سافري العداوة- هناك نوع آخر من الدول، مسالم مهادن خفيض الجناح لا يعادي أحداً ولا ينشد عداوته أحد، فلا موارد لديه يطمع فيها، ولا هي جغرافيا توصل إلى مورد مادي أو بشري يطمع فيه، فتقع في مجال التهديد حكماً عندما يريد طرف ما أن يصل إلى ذاك المصدر المادي أو البشري. 

أمام هذه المواقف الثلاثة، تعمد الدول لبناء جيوش ومؤسسات أمنية تحفظ من خلالها مواردها وتدافع عن مصالحها، فلا يطمع فيها طامع ولا يعتدي عليها معتد، وحيث أن الدولة - مطلق دولة - لا تملك من القدرات المادية أو البشرية، ما يُمكّنها من بناء مؤسسات عسكرية تملك ما تريد وترغب من قدرات بشرية ومادية، فإن كانت من النوع الأول، والذي يعز وجوده، فإنها تبني مؤسستها العسكرية انطلاقًا من فرضية عدم مناسبة أن تكون دولة لا تملك جيشاً، أو نواة جيش يمكن أن تتطور وتنمو مع الأيام إذا اقتضت الحاجة، فتعمد هذه الدولة إلى سن القوانين والمصادقة على التشريعات التي تشرعن وجود هذه المؤسسة وتحدد مهامها وتوصيفها وهيكلية مختلف صنوفها، واضعةً لها سقفاً بشرياً فلا تتجاوزه، وحدوداً للقدرات فلا تتعداه، وفي ظرف سنة أو سنتين، تجد نفسك أمام مؤسسة عسكرية، كاملة الصنوف والعديد، تستعرض بها الدولة في الاحتفالات والمناسبات الرسمية، فلا عدو يقاتل ولا خصم يخشى طرفه.

أما كانت من النوع الثاني، كثير الأعداء متعدد الخصوم والمنافسين؛ فإنها تبني جيشها ومؤسساتها الأمنية، وفق مسار طويل، ذي مراحل معروفة الأهداف تراعي أثناء نموها وتطورها، من جهة تطور التهديد، ومن الجهة الأخرى ما يمكن أن يؤَّمن من موارد ويخصص من قدرات بشرية ومادية، فتراها تنتقل من مرحلة إلى مرحلة ومن طور إلى آخر، تُعاظم القدرات، وتضع النظريات وتخوض التجارب والمناورات، كل ذلك من أجل تحقيق هدف واحد يشمل في طياته كل ما يتصور من أهداف، ألا وهو: تأمين الأمن القومي للدولة بما يوفر لأهلها موفور العيش وكريمه، وما عدا هذا الهدف، فتفصيل. كان هذا في التأصيل لأسباب ودوافع إنشاء الجيوش والمؤسسات الأمنية، مهم من حيث المبدأ لنعي ما نحن مقبلون عليه من حديث عنوان هذه المقالة.

ثانياً: في الموقف:

أما في الموقف الذي نحن في صدد الحديث عنه فهو مرتبط بسقوط هالة القداسة عن ( بقرة ) ( إسرائيل ) المقدسة والتي كانت إلى زمن غير بعيد فوق مستوى النقد والتجريح، ومن ينتمون لها؛ هم صفوة الأبناء وخيرة الآباء، فما الذي يحصل لتصبح هذه المؤسسة محط نقد؟ لا يُخشى التعرض لها أو نقد منتسبيها، وما الذي يحصل ليفقد هذا (المجتمع ) ثقته في (بقرته) هذه التي كان يرى فيها أنها الأم التي تجمع شتات الأبناء على مختلف ألوانهم ومشاربهم؟ وما حصل لتصبح موازنتها قابلة للنقاش؟ فليس كل ما تريد يصرف ولا كل ما تطلبه يجاب، بعد أن كانت تحظى بميزانيات عالية، ويخصص لها أكبر دعم مالي تقدمه الإدارة الأمريكية لحليف! باختصار وحتى لا نطيل، يمكن أن نقول أن السبب الوحيد الذي أوصل الموقف إلى ما هو عليه الآن يرجع إلى أن هذه المؤسسة لم تعد قادرة على تأمين البضاعة التي تطلب منها، ولا التي من أجلها يصرف عليها، فغدا ( المواطن ) يرى أنه يدفع الضريبة ويقتطع من ماله لجهة فيها من القصور ما فيها، وفيها من الفساد ما يفترض أن لا يكون، وتقصر في تأمين ظروف المعيشية المناسبة لأبنائهم الذين يخدمون فيها، ولم تؤمن السلعة الرئيسة المطلوب منها تأمينها- الأمن القومي- بل غدت فلسطين المحتلة محاطة بزنار من الأعداء ( اقرأ مقاومين ) يتربصون بهم الدوائر، ويعدون لهم كل عدة، فهذا الشمال فيه من الصواريخ ما يكفي لخوض معركة نارية بمعدل ثلاثة آلاف صاروخ في اليوم، فضلاً عما يملكه من قدرات أخرى قادرة على تشكيل تهديد ذي مصداقية على كامل الجليل، وهذه غزة التي تمنى أن يبتلعها البحر، فإذا بها تبتلع كامل أحلامه، وتصبح الصخرة التي تتكسر عليها طموحاته ومغامراته، وقد نالت شرف قصف كامل الأهداف التي ترغب فيها في فلسطين المحتلة، ولم يسلم من تلك الصواريخ؛ إلا ما تريد هي- غزة- أن تجنبه ويل نارها، وهذه الضفة الغربية تتعاظم فيها المقاومة ويقوى عودها ويصلب ظهرها، مع كل ما يعترضها من عقبات داخلية أو خارجية، فلا يكاد أسبوع يمر دون أن نشهد عملية إطلاق نار، أو قذف قنبلة حارقة محلية الصنع، والتعرض لقطعان المستوطنين لا يتوقف، أما عن القنبلة الموقوتة في مناطق الثمانية والأربعين؛ فهي نار تحت رماد، عسّ جمرها، فتشاوف في معركة " سيف القدس " فإذا به يحمل في طياته إمكانية الاشتعال وإحراق المحتل معه، فأصبح العدو يتحدث عن خطر وجودي يتمثل في أهلنا هناك، فوضع له الخطط وبدأ بتخصيص القدرات للتعامل مع هذا التهديد الجديّ، أما عن المحيط البعيد في الدائرة الثانية، فها هم في اليمن يقولون أنهم سيكونون حاضرين لأي نداء يوجه لهم للمشاركة في أي جهد عسكري يقصد فلسطين، وفي العراق كذلك، فقد شاهدنا أبناء العراق يحتشدون على الحدود الأردنية يطلبون التقرب إلى فلسطين، كل هذا وتلك ( البقرة ) تلتهم أفضل الطعام وتشرب أفضل الشراب، لتعطي في المقابل أفضل الحليب ( اقرأ أمن قومي )، فإذا بها جافة الضرع نحيلة البنية، فلا ضرع ولا زرع!!، ومن يريد الشواهد؛ فعليه مراجعة حروب هذا المحتل في 2006 و 2008 وما بعدها حتى 2021، يرى جفاف الضرع وعدم الفائدة في حرث الزرع.

هذا هو توصيف الموقف الذي أوصل إلى هذا المكان، ولكن ما هي المحركات والأسباب التي دفعت هذه ( البقرة ) المقدسة إلى هذا المستوى من السقم والعقم؟

ثالثاً: في المحركات:

1. تغير طبيعة التهديد:

إن أول المحركات التي بدأت تفقد هذا (المجتمع) ثقتَه في مؤسسته العسكرية هو تغير طبيعة التهديد التي تواجهه، فقد كان في السابق يواجه جيوشاً نظاميّة، قاعدة عملها التي تنطلق منها هي تكافؤ القدرات الذاتية والداعمة، فهي وبغض النظر عن صدق زعمها من عدمه أنها ما كانت تريد الاشتباك مع هذا العدو؛ إلا إذا تكافأت معه في القدرات والإمكانيات، الأمر الذي لم يكن متصوراً لأسباب ذاتية متعلقة بالقاعدة الاقتصادية والعلمية التي ترتكز عليها تلك الجيوش والتي كانت وما زالت تميل الكفة فيها للرجحان لصالح هذا العدو، أو أنها لم تكن تستطيع أن تحتك به، لأسباب موضوعية متعلقة بحليف هذا العدو الرئيسي، عنيت به الأمريكي، والذي لم يكن يسمح لهم بالتعدي على أهم حليف له في المنطقة؛ لذلك كانت هذه الجيوش تتلقى الضربات تلو الضربات من هذا العدو دون أن تحرك ساكناً، إلا أن الموقف اختلف بعد ظهور حركات المقاومة في فلسطين ولبنان والتي وإن كان يعنيها مراكمة القوة ومحاولة مجاراة العدو في تطوره التسليحي وما يملك من قدرات، إلا أنها في نفس الوقت تعلم أنها لن تستطيع أن تكافئ العدو فيما يملك من قدرات؛ لذلك لم تجعل أحد محددات التعرض له أو الاشتباك معه تكافؤ القوة، وإنما يكفي أن تملك من القوة ما يمكنّها من افشال مخططاته ومنعه من تحقيق أهدافه، لتحتك به وتشتبك معه في معركة غير متكافئة، تضرب فيها نقاط ضعفه التي أحصتها عليه بما تملك هي من نقاط قوة، الأمر الذي جعل هذه الحركات وبما تملك من قدرات، تهديداً ذا مصداقية قادراً على إيلام العدو وإفشال خططه.

2. تغيير في بيئة العمل الجغرافية والديموغرافية:

إن امتلاك القوة المادية والبشرية لأي كيان سياسي أو حزبي مرتبط من حيث الكم النوع؛ ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمجموعة من العوامل والمحددات، على رأسها المهمة التي تريد أن تؤديها هذه القوة، وكذا البيئة الجغرافية الديموغرافية التي ستشغل فيها هذه القدرات، ومن هنا فإن البيئة التي يعدّ العدوُّ نفسه وجيشه لخوض المعارك فيها تغيرت جغرافياً وديموغرافياً، ففي الوقت الذي كان التهديد فيه يقتصر على الدائرة الداخلية ممثلة بالضفة الغربية وغزة ومناطق الثمانية والأربعين، الأمر الذي يتطلب نوعاً محدداً من القدرات والاختصاصات، إذا بالتهديد في هذه البيئات الداخلية يتغير، فأصبح في غزة شابّاً عن الطوق يمتلك من القدرات والإمكانيات ما يمكنه من الرد على أي تهديد من قبله في عمق ( أرضه ) ونقل المعركة إلى جبهته الداخلية بكلّ ما فيها من مراكز ثقل مادية وبشرية، والأنكى من ذلك أن هذا التهديد في غزة يملك من القدرات ما يستطيع معه أن يفشل أي تقدم بريٍّ للعدو! أما عن الضفة ومناطق الثمانية والأربعين، فإن ما كان يعرف في مصطلحات العدو الأمنية على أنه " بداية تشكل تهديد " أصبح تهديداً فعلياً يزداد جرأة يوماً بعد يوم، ويكتسب الخبرات مع كل احتكاك يحتكه بالعدو، ولم تعد مؤسسة العدو العسكرية بذات الهيبة والهيلمان في نفوس الناس، وهنا أيضاً أصبح تهديد هاتين المنطقتين تهديداً ذا مصداقية تنتج عنه مخاطر لا يستهان بها، أما عن التهديد في الدائرتين الثانية الثالثة، فهو تهديدٌ أشبه ما يكون بعشّ الدبابير، لا يستهان به ولا يتعرض له خوفاً من استثارته، فيرتدّ على هذا العدو بفعلٍ يحيل أجواء فلسطين، إلى أجواء ماطرة بزخات من الصواريخ، لا تنفع معها مظلات ولا قباب.

3. مصداقية التهديد من حيث القدرات والقرارات:

إن ما يكسب التهديد أو التلويح بالقوة أو الردع أو ما يمكن أن ينشأ من معادلات للصراع بين أي متخاصمين هو ما يملكه كلٌّ منهما من مصداقية حول ما يتحدث عنه ويلوح به، فمصداقية التهديد- حتى وإن كان بسيطاً- هي التي تضفي عليه حالةً من الرهبة، وهي التي تحيله إلى خطر فعليّ، والمصداقية هنا فيما يخص قرار تشغيل مكونات وسائل التهديد أهم بكثير وأكثر فائدة من وسائله المادية والبشرية، فلا قيمة لأي قدرات تهديدية إذا تبين أن ليس خلفها جهة مستعدة لتفعيل هذا التهديد وتحمل أكلاف تشغيله، والذهاب بالشوط إلى آخره.

وهنا فإن أعداء (اقرأ المقاومين) هذا العدو الغاصب من حركات مقاومة فلسطينية وعربية لا يعوزهم الدليل على جدية ما يهددون به ويتوعدون، وقد أثبتت الحروب منذ عام 2006 وحتى 2021 أن هذه الجهات جادة وصادقة فيما تتوعد به، وأن أمر التشغيل أبسط من شرب الماء عند قادتهم، وهم لن يتوانوا في تفعيل وتشغيل كل ما يمكن أن يحبط مخططات العدو وألاعيبه.

4. الركون إلى الدنيا وزينتها:

نختم بقاصمة الظهر التي تفرغ كل قوة من مضمونها، وتحيلها إلى جسم خاوي يحسبه الظمآن ماءً، إنها الدنيا والركون لها، وعدونا قال الله فيه أنه حريص على حياة؛ مطلق حياة، وقد أثبتت تجارب الاحتكاك معه أنه من الجبن بمكان بحيث توزع على جنوده من الـ ( المساعدات ) ما يمكنه من قضاء حاجته دون الخروج من دبابته، والمتابع للشأن الصهيوني المعادي يرى أن هذا الكيان أصبحت روح الجنديّ عنده أهمَّ من روح المواطن، وعندما تصبح روحُ الجنديّ المكلف بالدفاع عن بلده وأهله أثمنَ وأهمَ من أرواح من كُلف بحمايتهم والدفاع عنهم، وهو الذي وقّع مع الموت عقداً، فلا يجزع إن هو وقع على الموت أو وقع الموتُ عليه، عندما تصبح هذه المعادلة على هذا النحو، فاقرأ على المؤسسة العسكرية السلام، وكبّر عليها أربعاً في صلاة لا ركوع فيها ولا سجود.

كانت هذه قراءةً سريعةً في موقف العدو وجيشه، والدوافع التي أوصلت الأمور إلى ما وصلت له، وفي المركز من هذه الدوافع والمحركات إرادةُ قوم لو أرادوا نقل الجبال لنقلوها، وفيهم قيل: إن لله رجالاً؛ إذا أرادوا أراد.

والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.