إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية
لم يكن هناك سوى عدد قليل من الدراسات حول قيادة جيش التحرير الشعبي الصيني على مدار العشرين عاماً الماضية. وقد غطت هذه الأدبيات عادةً قطاعات معينة فقط من القيادة، كما تم الانتهاء من معظمها قبل الإصلاح الهيكلي لجيش التحرير الشعبي، الذي بدأ في نهاية عام 2015. في هذا السياق، نشر “معهد الدراسات الاستراتيجية الوطنية”ـ في سبتمبر 2022، تقريراً للكاتب “جويل ووثنو” – وهو باحث أول في “جامعة الدفاع الوطني” الأمريكية – بعنوان “التنين الرمادي: تقييم القيادة العسكرية العليا في الصين”، قدم فيه تقييماً شاملاً للقيادة العليا الكاملة لقادة جيش التحرير الشعبي الصيني في عام 2021؛ إذ يحلل أكثر من 300 سيرة ذاتية لكبار ضباط الجيش الصينيين من 2015 إلى 2021؛ لتقييم الهيكل والتركيبة الديموغرافية والأنماط المهنية لقيادة جيش التحرير الشعبي، وكذلك مؤهلاتهم السياسية ومحددات الترقية، ويُقيِّم في النهاية الفاعلية العسكرية للصين، ومستقبل القيادة داخل الجيش.
هيكل الجيش
يُركز التقرير على هيكل القيادة العليا في جيش التحرير، ويحلل أبرز التغييرات التي طرأت عليها في ظل الإصلاحات الهيكلية للرئيس الصيني عام 2015؛ وذلك كالتالي:
1– وجود نخبة من الضباط في القيادة العليا: وفقاً للتقرير، تتكون القيادة العليا لجيش التحرير الشعبي من أكبر 100 إلى 200 ضابط بالجيش، وهم الذين يجلسون على قمة فيلق الضباط الذي يتكون من مئات الآلاف. وقد بلغ عدد القيادة العليا عام 2021 نحو 155 ضابطاً تحديداً. وهي متشابهة في الأهمية مع ضباط فئة ثلاث وأربع نجوم في الولايات المتحدة، وفقاً لما ورد في التقرير.
2– تقسيم واضح للتخصصات بالقيادة العليا: يشير التقرير إلى أنه قبل أن يصل هؤلاء الضباط إلى القيادة العليا، يتقدمون بأسلوب منهجي عبر الرتب الدنيا. وعند التكليف، يتم تصنيفهم إلى خمسة تخصصات، هي: الشؤون العسكرية، والشؤون السياسية، واللوجستيات، والمعدات، والمتخصصون التقنيون.
3– تنفيذ إصلاحات هيكلية دورية في الجيش: بحسب التقرير، لم تكن القيادة العليا مُحصَّنة ضد الإصلاحات الهيكلية التي قام بها الرئيس “شي” داخل الجيش؛ ففي عام 2015، كان عدد كبار القادة 182 ضابطاً، ثم في عام 2021 انخفض الرقم إلى 155. ويتوافق الانخفاض بنسبة 13% مع الانخفاض الإجمالي في القوى العاملة بالجيش الذي حدث خلال الوقت ذاته من 2.3 مليون إلى مليوني فرد. وقد شملت التخفيضات في القيادة أيضاً اللجنة العسكرية المركزية نفسها؛ فعندما أصبح “شي” رئيساً للجنة في عام 2012 كانت تضم 10 ضباط، لكن بعد مؤتمر الحزب التاسع عشر في أكتوبر 2017، انخفض هذا العدد إلى ستة ضباط.
وطبقاً للتقرير، كان حجر الزاوية في إصلاحات جيش التحرير في عهد شي، هو تطوير هيكل قيادة مشترك يتمتع فيه قادة المسارح بسلطة وقت السلم على القوات البرية والبحرية والجوية. وقد كان هذا النموذج منسجماً على نحو أفضل مع تركيز الجيش على التحضير لعمليات مشتركة عالية الكثافة مقارنةً بالنظام السابق للإصلاح؛ حيث كان قادة المناطق العسكرية يفتقرون إلى السيطرة العملياتية في وقت السلم على الوحدات غير العسكرية، كما وسَّع الجيش الصيني نطاق التدريب المشترك في السنوات الأخيرة؛ ما يسمح للضباط بصقل مهاراتهم في التخطيط والقيادة في بيئة “قتالية واقعية”.
4– هيمنة القوات الجوية والبحرية على المناصب: يؤكد التقرير أن نصيب ضباط القوات البرية في المناصب العليا تراجع بأكثر من 20% في ظل الإصلاحات الهيكلية الأخيرة، بعدما كانت تهيمن على معظم المناصب الرئيسية في الإدارات العامة والمناطق العسكرية؛ وذلك لصالح تطوير العمليات المستقبلية للجيش الصيني في المجالين البحري والجوي. وكان الفائز الأكبر من الإصلاحات – وفقاً للتقرير – “قوة الصواريخ”، التي شهدت تضاعُف حصتها (من 4% إلى 8%). كما أصبح ضباط القوات البحرية والجوية قادة مسارح عسكرية لأول مرة في عام 2017.
5– زيادة عدد القيادات في مقر الخدمة العسكرية: وفقاً للتقرير، تضاعفت حصة الضباط المعينين في مقر الخدمة، من 16% إلى 32%. ويعكس هذا إنشاء مقرات جديد للجيش، مثل مقر قيادة قوة الدعم الاستراتيجي الجديدة (SSF)، وقوة الدعم اللوجستي المشتركة (JLSF). وبموجب النظام الجديد، يكون الضباط المعينون في مقرات الجيش والبحرية والقوات الجوية مسؤولين بشكل أساسي عن بناء القوات، من حيث تدريبها وتجهيزها. فيما يرى التقرير أن وجود نسبة أكبر من كبار الضباط في مقر الخدمة، قد يكون له آثار على التنافس بين الدوائر العليا في المستقبل.
سمات القيادات
وفقاً للتقرير، تتمتع مجموعة كبار قادة الجيش في 2021 بخبرات تكوينية ومهنية مختلفة عن أسلافهم، لكنها متشابهة ديموغرافياً؛ وذلك على النحو التالي:
1– امتلاك القيادات خبرات مهنية متقاربة: يشير التقرير إلى أن القيادات الحالية كانت أول من انضم إلى جيش التحرير الشعبي خلال حقبة “الإصلاح والانفتاح” (1979 إلى الوقت الحاضر)، وقد تشكلت حياتهم المهنية من خلال تغيير الاستراتيجية العسكرية للصين قبل وبعد نهاية الحرب الباردة؛ إذ بدأ معظمهم حياته المهنية من خلال الاستعداد لصراع واسع النطاق ضد الاتحاد السوفييتي، الذي كان خصم الصين الرئيسي في أواخر الحرب الباردة، كما كان هؤلاء الضباط في الخدمة في الثمانينيات، عندما انخرط الجيش الصيني في تعاون عسكري كبير مع الولايات المتحدة، لكنهم شهدوا أيضاً توتر العلاقات الصينية الأمريكية بعد تظاهرات ساحة تيانانمن عام 1989.
2– تقارب أعمار القيادات العليا: انضم 18 فقط من بين 155 من كبار الضباط في عام 2021 إلى الجيش في مرحلة ما خلال حقبة الرئيس ماو (1949–1976)، وهم الآن في منتصف الستينيات إلى أوائل السبعينيات، وسيتقاعدون قريباً. أما معظم كبار الضباط فقد انضموا في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، وانضم أصغرهم في منتصف الثمانينيات. وبحسب التقرير، يقوم الضباط في الجيش الصيني بالتناوب كل سنتين أو ثلاث سنوات، ويتعرضون، إلى حد ما، لمسؤوليات مختلفة ولكن أقل من نظام الولايات المتحدة؛ حيث يُغيِّر الضباط فئة أربع نجوم مناصبهم كل 18 شهراً تقريباً.
3– تشابه التكوين الجنسي والعرقي: بحسب التقرير، يهيمن الذكور من عرقية الهان على القيادة العليا لجيش التحرير؛ إذ لم تكن هناك امرأة من بين كبار الضباط في الجيش في عام 2015 أو 2021. وينتهج الجيش أيضاً سياسات تفضيلية ضد الأقليات العرقية، إلا أنه قام أحياناً – طبقاً للتقرير – بتعيين ضباط من الأويجور والتبت على مستويات عليا في منطقتَي شينجيانج والتبت العسكريتَين.
4– امتلاك خبرات دولية محدودة: بحسب التقرير، غالباً ما يتنقَّل كبار القادة العسكريين الصينيين في جميع أنحاء البلاد إلا أن لديهم خبرة دولية قليلة بخلاف ما قد اكتسبوه عن طريق الدبلوماسية العسكرية في جولات قصيرة المدة في وقت سابق من حياتهم المهنية، كما يرجح التقرير أن يكون هناك وعي محدود بالمهارات الوظيفية الأخرى؛ فعلى سبيل المثال، لا يميل القادة العملياتيون إلى امتلاك خلفية في اللوجستيات أو الاستحواذ.
محددات الترقّي
يجب أن يكون جميع ضباط جيش التحرير أعضاء ذوي وضع جيد في الحزب الشيوعي الصيني، لكن المرشحين للترقية إلى أعلى الدرجات يخضعون لمزيد من التدقيق؛ بسبب حساسية مناصبهم. وفيما يلي أهم المؤهلات والمحددات للحصول على ترقية في الجيش الصيني على النحو التالي:
1– الولاء للرئيس الصيني: يحتاج كبار القادة إلى امتلاك مهارات الذكاء السياسي؛ إذ لا يحتاجون رأس مال اجتماعياً فحسب، بل يحتاجون أيضاً إلى اجتياز صراعات النخبة الداخلية بنجاح. وقد تم عزل بعضهم بالفعل في عمليات التطهير ضد الفساد التي استخدمها شي لطرد المعارضين السياسيين بعد توليه السلطة. ويؤكد التقرير أن من نجوا من عمليات التطهير هم الذين تجنبوا الارتباط بخصوم شي، وكانوا حريصين أيضاً على إظهار الطاعة له من خلال دعم أجندته من أجل الإصلاح العسكري.
2– الكفاءة وتنوع الخبرات: هناك تصور خاطئ بأن كبار ضباط جيش التحرير الشعبي يتم اختيارهم بشكل غير متناسب من منطقة نانجينج العسكرية، وهو المجال الذي خدم فيه “شي جين بينج” من عام 1985 إلى عام 2007، ويعتبر أيضاً “مهد الجنرالات”، نظراً إلى أهميته في التحضير لنزاع تايوان المرتقب. لكن نحو ثلث كبار القادة فقط في عام 2015 – وفقاً للتقرير– خدموا في منطقة نانجينج العسكرية خلال العقد الماضي، وبدلاً من تفضيل الضباط ذوي الخلفية الجغرافية المحددة، فإن شي يركز على أصحاب الأداء العالي، وضمان اشتمال القيادة على مجموعة متنوعة من الخبرات.
وختاماً، قد تؤدي الصرامة في مهام جيش التحرير، والمركزية الشديدة في اتخاذ القرارات – بحسب التقرير – إلى تقليل فاعلية الصين في النزاعات المستقبلية، خاصةً تلك التي تتطلب مستوى عالياً من التعاون والقدرة على التكيف، مثل الحرب التي شنتها روسيا ضد أوكرانيا في عام 2022، خاصةً إذا كان القادة العسكريون الصينيون يفتقرون إلى التفكير بطرق جديدة تتجاوز خدمتهم وتخصصهم.
لذلك هناك بوادر للتغيير في القيادة العليا، من أبرزها تزويد القادة الصاعدين بخبرات أكبر، وإتاحة الفرصة للأجيال الجديدة للمشاركة في القيادة العليا، وهذا من شأنه إيجاد جيل مستقبلي يتسم بالسرعة في الإلمام بالعمليات والتكنولوجيا الحديثة، كما يرى التقرير أن إنتاج نوع مختلف تماماً من كبار ضباط جيش التحرير الشعبي يتطلب نوعاً من التغييرات في تقاليد الخدمة والثقافة التنظيمية، وهو ما ثبت أنه أمر صعب حتى بالنسبة إلى الولايات المتحدة، بعد أكثر من ثلاثة عقود من قانون إعادة تنظيم الدفاع الصادر في 4 أكتوبر 1986.
المصدر:
Joel Wuthnow, Gray Dragons: Assessing China’s Senior Military Leadership, The Institute for National Strategic Studies, September 2022, accessible at: https://ndupress.ndu.edu/Media/News/News–Article–View/Article/3156126/gray–dragons–assessing–chinas–senior–military–leadership/