أكدت إدارة بايدن على أن أولويتها الاستراتيجية راحت تعتبر الصين عدوها الأول، أو الأخطر. ولكنها جعلت الصراع مع روسيا في مستوى ثان، وأحياناً موازياً للصين أو على مرتبة واحدة عملياً.
أما بالنسبة إلى الصراع ضد إيران، فقد دأبت إدارة بايدن على جعله بمثابة الأولوية في إيجاد حل لاتفاق نووي يجدّد الاتفاق السابق الذي انسحبت منه إدارة ترامب. ولكنها واصلت ما ورثته من ترامب، وراحت تزيد عليه شروطاً تتعدى العودة إلى الاتفاق السابق، مع الاستمرار في العقوبات التي وضعتها إدارة ترامب بعد انسحابها من الاتفاق.
كان يفترض بإدارة بايدن بعد ممارسة سنة أن تكون قد بلورت خطة طريق متكاملة، ومفكَّراً بها جيداً، في التعامل مع المستويات الثلاثة بناء على ما أُشيرَ إليه أعلاه. ولكن متابعة الحراك الديبلوماسي للولايات المتحدة يكشف نشاطاً، أقل، في التعامل مع الصين كأولوية، فيما أخذت تنشغل، أكثر، في الصراع مع روسيا، تصعيداً، وتأزيماً، إلى حد وضع السيف مشهراً مقابل السيف، كما لو كانت روسيا وحيدة في الأولوية والعدو الأخطر.
أما المواجهة الديبلوماسية فقد استمرت ضد إيران حتى أعلى نسبياً من حيث الحدّة من الصراع مع الصين. ولكن أيضاً على مستوى أقل، من الحدّة المتصاعدة الجارية مع روسيا.
لعل أول تفسير لهذا التطوّر للصراع الدولي، والمتناقض مع المقدمة الأساسية التي تعتبر الصين العدو الأول والأخطر، يرجع إلى الطريقة (الاستراتيجية والتكتيك) التي تتعامل فيها الصين مع التوجّه الأمريكي ضدها. فالصين غير موجودة في المواجهة السياسية مع أمريكا في أي بؤرة صراع في العالم في التصدّي لأمريكا، عدا ما يخصّ الحدود الصينية المباشرة في بحر الصين وفي تايوان. وبهذا تجد إدارة بوش نفسها أمام تحدٍّ صيني، أقل، أو غير مستفز، على مستوى عالمي، إلاّ عندما تعود إلى حساب القفزات الإقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، التي جعلت كل من إدارة ترامب وبايدن وقبلهما إدارة أوباما، تعتبرها المنافس الحقيقي على مستوى عالمي، بما في ذلك الاقتراب الشديد من احتلال المركز الأول عالمياً، مكان الولايات المتحدة الأمريكية. وهذه خطورة ما بعدها خطورة على الهيمنة الأمريكية-الأوروبية، عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً وسياسياً، على العالم. ومن ثم ثقافياً وحضارياً لاحقاً بالضرورة.
متابعة الحراك الديبلوماسي للولايات المتحدة يكشف نشاطاً، أقل، في التعامل مع الصين كأولوية، فيما أخذت تنشغل، أكثر، في الصراع مع روسيا، تصعيداً، وتأزيماً، إلى حد وضع السيف مشهراً مقابل السيف، كما لو كانت روسيا وحيدة في الأولوية والعدو الأخطر.
على أن هذا البُعد يتحرك بطريقة المتسلل، وليس المستفز، المباشر، كما يحدث في المواجهات السياسية والتحركات العسكرية. مما يسمح بإنامة اليقظة، أو بالتأجيل. وهذه سلبية لا يبين خطرها إلاّ بعد فوات الأوان. وهو ما وقعت أمريكا بمثله طوال عشرين عاماً بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وانفراط عقد الاتحاد السوفياتي، وانتقال الصين إلى مرحلتها الثالثة داخلياً بعد مرحلة تنغ تساو بينغ. وذلك من خلال الغفلة مما يجري في روسيا وفي الصين، خصوصاً في العشرية الأولى من الألفية الثالثة.
وبكلمة، على الرغم من اعتبار الصين العدو رقم واحد، وانتقال الأولوية الاستراتيجية الأمريكية إلى مواجهتها، إلاّ أن اشتعال المواجهة انتقل إلى صدام يكاد يصل إلى حرب حامية مع روسيا في الموضوع الأوكراني. بل يمكن القول: لولا الخوف من الحرب النووية لاندلعت الحرب، أو لأصبحت متوقعة في كل لحظة.
إن من يُتابِع الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية، والأخطر من يُتابِع ما يجري من تسليح غربي للجيش الأوكراني (جيش كييف)، عليه أن يعتبر الحرب واقعة، حتى لو كنا في مرحلة ما قبل القنبلة النووية. مثلاً أرسلت بريطانيا بين 23 و25 من شهر كانون الثاني/يناير الجاري طائرات إلى كييف تحمل 450 طناً من الأسلحة المضادة للدبابات، ومن الصواريخ الهجومية متوسطة المدى إن لم تكن بعيدة المدى. ولكن حتى مع استبعاد اندلاع الحرب، يجب أن يُنظر إلى ما يجري من مواجهة روسية-أمريكية-ناتوية (عدا ألمانيا) في أوكرانيا وحول أوكرانيا، بمثابة حرب حقيقية بلا نيران.
هذا ويمكن أن يُلاحَظ في الموضوع الأوكراني أن التسليح الذي تتلقاه كييف، تحت حجة الدفاع ضد غزو روسي، سوف يهدّد مستَقبَلاً، باندلاع حرب داخلية من قِبَل كييف ضد جمهورية دونيتسك الشعبية (شرق أوكرانيا) الحليفة لروسيا.
أما الصراع رقم 2 المحتدم والعالي الوتيرة طوال السنة الماضية ما بين أمريكا وإيران حول العودة إلى الاتفاق النووي، فقد وصل في فيينا إلى عدم إمكانية إنجازه على أساس مفاوضات 5+1، وإلى عدم المضيّ فيه. مما فرض على أمريكا التراجع وطلب إجراء مفاوضات مباشرة ثنائية أمريكية-إيرانية. مع إشارات بتقديم تنازلات لإيران.
وذلك بعد أن فشلت كل محاولات أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا بفرض شروط جديدة على الاتفاق النووي، ابتداءً من سقوط المطالبة بإدراج البرنامج الصاروخي البالستي الإيراني، أو سياسات إيران في المنطقة، وبعد فشل الحفاظ على جزء من العقوبات. فمن هنا أدى هذا الفشل أمام صلابة الموقف الإيراني، حتى بمواجهة ما لُوّح به من تهديد عسكري، تراجعت أمريكا من خلال المطالبة بالمفاوضات المباشرة، مع تلويح بتقديم تنازلات. مما يعني إدارة الظهر للدول الأوروبية، ولكلٍ من روسيا والصين الشركاء في مفاوضات النووي 5+1 في فيينا.
وهنا أحدث المفاوض الإيراني انعطافة في موقفه السابق الرافض للمفاوضات الأمريكية-الإيرانية المباشرة. وذلك بقبول التفاوض الثنائي المباشر إذا حصل على ضمانة برفع كل العقوبات، وبالتوصل إلى اتفاق نووي جيد، كما صرح وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، وعلي شمخاني، الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني. وبهذا يكون الصراع الإيراني ـ الأمريكي (الإسرائيلي) والأوروبي الذي احتدم طوال عام، وارتطم بالفشل تلو الفشل، قد دخل منذ 24 كانون الثاني/يناير في مرحلة جديدة حبلى باحتمالات الفشل والنجاح، بدورها، بعد أن تخطت مرحلة مفاوضات 5+1.
أما الصراع رقم 2 المحتدم والعالي الوتيرة طوال السنة الماضية ما بين أمريكا وإيران حول العودة إلى الاتفاق النووي، فقد وصل في فيينا إلى عدم إمكانية إنجازه على أساس مفاوضات 5+1، وإلى عدم المضيّ فيه. مما فرض على أمريكا التراجع وطلب إجراء مفاوضات مباشرة ثنائية أمريكية-إيرانية. مع إشارات بتقديم تنازلات لإيران.
حدوث هذه الانعطافة في الموقف الإيراني بعد تشدّد دام عشرات السنين ضد المفاوضات المباشرة، ما كان له ليحدث، لولا تأكيدات أمريكية وصلت إلى إيران، برفع كل العقوبات، والعودة إلى الاتفاق النووي، بلا شروط جديدة.
طبعاً هذا لا يعني أن المفاوضات المباشرة قد أصبحت ناجحة، وما علينا إلاّ انتظار إعلانها. فأمريكا تغدر، ولا تؤمَن وعودها. ولكن إيران حتى مع فشل المفاوضات المباشرة تكون قد كسبت من الشرخ الذي أحدثته أمريكا ليس مع روسيا والصين فحسب، وإنما مع حلفائها الغربيين. وكذلك تكون إيران قد كسبت على مستوى الرأي العام الداخلي والرأي العام العالمي. وأصبح اللوم كل اللوم في التأزيم والتوتير منصباً على أمريكا.
أما على مستوى العلاقة بين إيران وكل من روسيا والصين في انتقال المفاوضات إلى ثنائية، والتخلي عن معادلة 5+1 فآثارها السلبية قابلة للتجاوز حتى لو تم ذلك دون استشارتهما، لأن كلاً منهما قد ترك لنفسه هامشاً واسعاً يتحرك فيه باجتهاده، دون الرجوع إلى علاقاته بالدولتين الصديقتين الأخريين، ومن دون إخلال بما بين الثلاثي من علاقات وتعاون وتفاهم.
إن انتقال المفاوضات من 5+1 إلى مفاوضات ثنائية مباشرة يعطي صورة جديدة لسمات العلاقات في ما بين الدول في مرحلة تعدّد القطبية، وفقدان أمريكا سيطرتها على النظام الدولي.
فالدول تأخذ قرارتها بالتشاور، أو من دون شرط التشاور، مع أصدقائها أو حلفائها. وهو ما لم يكن دارجاً في مرحلة الحرب الباردة.
المصدر (عربي21)
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "180 تحقيقات"