مقدمة:
تقوم وحدات وعناصر سلاح الإشارة في المقاومة بتوفير وسائل ونظم الاتصال المختلفة، التي تؤمن نقل وتداول المعلومات والأوامر في ميادين القتال، وتوفر القيادة والسيطرة الجديدة للقوات في السلم والحرب، لأنه لا يمكن لممارسة القيادة أن تتحقق بفاعلية دون توفر وسائل وقنوات مناسبة للاتصالات، ويجب أن تكون مجدية وآمنة، ومن الناحية التنظيمية والعسكرية تكتسب شبكة الاتصالات أهمية كبرى في أي نظام تنظيمي أو عسكري، لأنه بواسطتها يتم الاستطلاع ونقل المعلومات والأوامر والسيطرة والتجسس والتضليل والمباغتة والتقييم والتوجيه.
وسرية الاتصالات في هذا المجال لها أهمية كبرى، فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان “، لذلك فإن سرية الاتصالات وتشفير الاتصالات العسكرية مهم جدا في تقليل الثغرات الأمنية التي يمكن أن يستغلها العدو في التجسس والاغتيال والمباغتة وكشف ما تنوي القيام به تجاه العدو.
فسلاح الإشارة يمنح الدعم الكامل للقائد والجندي في أثناء المعركة، ولعل «فقد الاتصال بـالقيادة» من أسوأ العبارات التي من الممكن أن تمر على الجندي أثناء الحرب، أو أن يفقد اتصاله بقيادته ومجموعته، كما أنه أسوأ خبر على القائد فقْد اتصاله بجنوده الذين هم أدواته لتنفيذ الخطط التي يعمل من أجلها.
ويؤدي سلاح الإشارة دوراً محورياً في الجيوش المُعاصرة، فهو بمثابة العين التي تبصر بها القوات وكذلك عصبها الحيوي الذي من خلاله يتم التحكم والسيطرة في المعارك والحروب، ونظراً لهذه المكانة التي يتمتع بها؛ فقد وُضع من القيادة العسكرية العُليا على سُلم الأولويات من أجل الرقي به وازدهاره، ليكون قادراً على إيصال المعلومة المناسبة من الجنود إلى القيادة في الوقت المناسب، وإيصال التوجيهات والأوامر من القيادة إلى الجنود في الوقت المحدد، وتبادل الآراء والخبرات والمعلومات المهمة بين القيادة.
بعد كشف برنامج “ما خفي أعظم” عن تفاصيل عملية تسلل وحدة إسرائيلية سيريت متكال إلى غزة في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، وبيّن أن الوحدة كانت تستهدف زرع منظومة تجسس لاختراق شبكة اتصالات المقاومة في غزة، نحاول في هذه المادة تسليط الضوء على دور شبكة الاتصالات السلكية الخاصة التي أقامتها المقاومة الفلسطينية بعد الحرب الأولى على غزة في شتاء عام 2009.
نشأة اتصالات القسام:
الاتصالات بين مجموعات وخلايا كتائب القسام في فلسطين كانت تتم مع بدء تأسيس الجناح العسكري في ثمانينيات القرن الماضي بطرق بدائية، إما بواسطة «النقطة الميتة» أو «مُراسلي البريد»، حيث كانوا يتكفلون بنقل وإيصال الرسائل التي كانت أغلبها مُشفرة وتتضمن أخبارا ومعلومات وتقارير أمنية أو أوامر وتعليمات.
مع مجيء السلطة الفلسطينية أصبحت كتائب القسام تستفيد من خدمات الاتصالات اللاسلكية والتي عُرفت وقتها بـ “البيلفون”، لكن سرعان ما أدركت الكتائب المُهدِدات الأمنية التي تلحق بقيادة الجهاز العسكري والتي عن طريقها جرى اغتيال مهندسها الأول يحيى عياش المهندس الأول في كتائب القسام.
بقيت تستخدم الاتصالات الخلوية الإسرائيلية والفلسطينية الميرس، والجوال حتى بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، لكن العدو سرعان ما كان يُشوش عليها أثناء إقدامه على تنفيذ عمليات الاجتياحات للمخيمات الفلسطينية الأمر الذي يُبقي مُعضلة فقدان الاتصال بين المقاتلين ماثلةً أمامهم.
شكل استمرار مُشكلة التشويش على الاتصالات أثناء المواجهات مصدر قلق للمُقاتلين في الجبهات، لكن ذلك كان باعثاً ومُحركاً للبحث عن بدائل أخرى، وفي أثناء عملية اجتياح “قوس قُزح” عام 2003م نجحَ القائد الشهيد رائد العطار في إدارة معركة المواجهة وإصدار التعليمات، ورصد تحركات العدو لجميع المقاتلين، وذلك بواسطة أجهزة اتصالات لاسلكية. “منذ تلك اللحظة تجسدت الأفكار والإرهاصات الأولى لنشأة سلاح الإشارة في كتائب القسام، ولاقت وقتها شبكة الاتصالات اللاسلكية استحسان جميع قادة الألوية، التي أخذت شكلًا أكثر ترتيبًا عام 2005م حيث أسس سلاح الإشارة.” [1]
ساهمت الاتصالات حتى عام 2008م في إنجاح العمليات العسكرية التي أدت إلى طرد الاحتلال من غزة، وكذلك إنجاح عملية «الوهم المتبدد»، فأصبحت قواعد الإشارة وجنودها هدفاً للعدو، الذي استهدفها بالصواريخ في محاولةٍ منه للقضاء عليها.
رائد العطار وتنظيم سلاح الإشارة
“سلاح الإشارة” من أهم الأسلحة في القوات المسلحة قديما وحديثا، وزادت أهميته في العصر الحديث نظرا للتطور الحاصل على جميع المستويات، سواء معدات الاتصال أو التقنية المستخدمة في الحروب الحديثة أو التدريب الحديث الذي يستلزم هذا التطور السريع الهائل.
عرف مختصون غرفة العمليات “سلاح الإشارة” بأنها الدائرة التي تعنى بالاتصالات وتنظيمها لتبادل إرسال الأوامر والتعليمات والإيعازات والتقارير والإشارات، واستقبالها بمختلف السبل والوسائل من أجل قيادة القوات والسيطرة عليها في السلم والحرب”. [2]
مرّت عمليةُ تنظيم سلاح الإشارة بمرحلتين مهمتين كانتا بمثابة الانطلاقة التي رسمت الأُسس التنظيمية لهذا السلاح الحساس، تمثلت المرحلة الأولى في تزويد كتائب القسام مجموعاتها بأجهزة اللاسلكي، وكان لها الأثر البارز في وضع المجاهدين بما يجري على أرض الميدان، بينما جاءت المرحلة الثانية مع نجاح مشروع شبكة الاتصالات السلكية التي مكنت القيادة من التواصل مع بعضها البعض وتنسيق خطة النيران، والتواصل مع الميدان في أحلك الظروف والأوقات، حيث وفرت هذه الشبكة عنصر التأمين للقوات وأماكنها وحفظت أسرارها [3]
وجود شبكة اتصالات سلكية ممتدة في معظم مناطق قطاع غزة، صعّبت على الاحتلال الإسرائيلي استهداف المقاومين، تحديداً اجتماعات قيادات المقاومة في الميدان خلال الحروب، وسهّلت من التواصل بين القيادات والعناصر في الميدان، وأصبح هذا السلاح رافعة للعمل العسكري المقاوم لما توفره من احتياطات الأمان، والسهولة في تداول المعلومات، بأقل جهد ووقت ممكن، وأصبحت شبكة الاتصالات السلكية التي بدأ العمل بها بشكل موسّع بعد انتهاء معركة “الفرقان”، وبإشراف القائد الشهيد رائد العطار مرحلة فارقة في تاريخ سلاح الإشارة القسامي، حيث جاء قرار العمل بها كنتيجة التوصيات التي تمخضت عن اللجنة الفنية لدراسة طبيعة إدارة وتأمين القوات في الحرب[4].
من الواضح أن قرار استخدام وتفعيل هذا السلاح كان له بالغ الأثر على تطور منظومة الاتصالات، “حيث باشر سلاح الإشارة مهامه كباقي تخصصات كتائب القسام في الإعداد لتأمين اتصالات القيادة مع القوات، والقوات فيما بينها ضمن الأعمال التنسيقية، ونجح أفراده خلال وقت قصير في جعل الشبكة تغطي كافة مناطق قطاع غزة”.
في أول اختبار لشبكة الاتصالات اللاسلكية أثبتت فعاليتها حيث نجحت البنية الرصينة لسلاح الاتصالات خلال معركتي «حجارة السجيل» و«العصف المأكول» في تهيئة الظروف المناسبة لقيادة وسيطرة آمنة بعيدة عن قدرات العدو، مكّنت المجلس العسكري من الانعقاد الدائم ومتابعة مجريات المعركة، إذ كان المجلس العسكري بمثابة هيئة أركان حرب منعقدة تدير شؤون المعركة بكل تفاصيلها.
ويعد تراجع الخسائر في صفوف المقاومين الفلسطينيين في عملية العصف المأكول، مقارنة بأعداد الضحايا المدنيين، إلى اعتماد المقاومة لتكتيكات خاصة تتعلق بإقامة شبكة أنفاق أرضية وتعزيزها بشبكة اتصالات خاصة، كما كانت عناصر الإشارة كالاستشهاديين، نظراً لخطورة العمل الذي يقومون به، فهم مضطرون للعمل حتى في أحلك الظروف العسكرية، حيث إن عناصر الإشارة كانوا يعملون تحت أنظار طائرات التجسس، أثناء عملية إصلاح الخطوط ووصل القيادة ببعضها.
أصبح سلاح الإشارة السلكي يؤدي دوراً حيوياً في تأمين القوات من الناحية المعلوماتية، سواء أوقات الهدوء حيث يعمل المقاومون على تطوير الشبكة، وكذلك الصيانة المستمرة لها، وتأمينها من استخبارات العدو سواء بإخفاء خطوطها أو بحمايتها من عمليات التنصت، أو في خلال التصعيد حيث يقومون بمهام معقدة ودقيقة للحفاظ على إتمام عملية السيطرة والتنسيق والتي هي العصب الحيوي لأي جيش.
الفائدة والدور العملياتي لشبكة الاتصالات السلكية
تعتبر الاتصالات السلكية الواسطة الأساسية في قيادة القوات، وتقسم بحسب وظائفها إلى اتصالات بعيدة تربط بين قادة الألوية والتشكيلات والقطعات وأركانهم وقواتهم، واتصالات داخلية لتحقيق اتصالات ضباط الأركان الموجودين في مقرات القيادة، واتصالات خدمة لاستثمار خطوط الاتصال وعقده وإدارتها. وتنظم الاتصالات السلكية أساساً في مناطق التحشد وفي الدفاع.
فقد فرضت الضرورات العسكرية، اعتماد بديل عملي للاتصالات اللاسلكية التي كانت تستخدمهما المقاومة، باعتبارها الوسيلة الوحيدة للاتصال، والتي استطاع المحتل حينها اختراقها بتقنياته المتطورة والنفاذ الى الموجات الخاصة بالمقاومين، وتعقبهم أثناء إجرائهم لأي اتصال فيما بينهم أو بين قياداتهم، عبر التنصت عليهم وتحديد مكان إجراء الاتصال بدقة، فيقوم عندها بقصفه، وهذا ضاعف من خسائر المقاومة البشرية، إضافة إلى ذلك فإن طبيعة المواجهة العسكرية القائمة وتطور العمل المقاوم، حتّما على القسام استخدام أساليب جديدة مضادة وبديلة تؤمن حرية التحرك بعيدا عن أجهزة التنصت والتجسس والتشويش الجوي والأرضي.
عملية الاتصال والتواصل محور رئيس في العمل العسكري، وفي حال فقدانه تصبح القيادة عمياء كونها ستفتقد إلى مبدأين أساسيين من مبادئ الحرب، هما الضبط والسيطرة، وفي أصول الحرب يتم الاعتماد على عنصر أساسي هو وحدة القيادة التي أثبتت تماسكها وفعالية التنسيق بينها في محطات عدة خلال الحرب منها أثناء الهدنة ووقف إطلاق الصواريخ أو إجراء أي اشتباك، من هنا تكمن الفائدة العملية لشبكة الاتصالات السلكية لقسام في النقاط التالية:
- ربط القيادة بالعناصر المنتشرة على الأرض، لقد أسهمت الشبكة التي قام على إنشائها مهندسو اتصالات، بربط القيادة بالعناصر المنتشرة تحت الأرض وفوق الأرض.
- استخدامها خلال مرحلة الإعداد والتجهيز في مرحلة ما قبل الحرب التي تتطلب درجة عالية من السرية، وعدم الانكشاف للعدو انطلاقا من قاعدة مكافحة التجسس.
- على مستوى التكتيك العسكري، أفادت الشبكة من خلال إعطاء الأوامر حتى في أدق الظروف، ويعطى مثلا على ذلك عمليات المقاومة خلال حرب العصف المأكول 2014، العمليات خلف الخطوط، عملية ناحل عوز، عملية موقع 16، وعملية أسر شاؤول آرون شرق الشجاعية وهدار جولدن في رفح.
- نجاح العمليات وسرعة التنفيذ اعتمد بشكل رئيس على آلية التواصل التي تتم من خلال الاتصالات السلكية، من العناصر في الميدان، الى القيادة التي أعطت الأوامر.
- في غضون دقائق قليلة يكون مقاتلو المقاومة قد أصبحوا على أهبة الاستعداد على امتداد خطوط المواجهة، إذا ما جرى استنفارهم قادة ترسانات الأسلحة ومسؤولي الوحدات الصاروخية والمدفعية المضادة للدروع، للتصدي لأي تقدم صهيوني.
- نقطتان رئيسيتان يجب توافرهما قبل إطلاق أي صليات صاروخية، النقطة الأولى هي تحديد زمان الرماية والثانية مكان الرماية، فالأهداف الكبيرة والاستراتيجية مثل تل أبيب ومناطق المركز وحجم القصف وكثافته، مرتبطة بهيئة أركان المقاومة.
وسبق لي أن تحدثت بتقرير قمت بترجمته بعنوان: هل قامت المقاومة ببناء “خط ماجينو” على شكل شبكة صواريخ ذات إدارة مركزية؟ ويرى التقرير أنه “إذا بنت حماس مثل هذا النظام المرتبط والمتصل ببعض، فهذا قفزة في المفاهيم لدى المقاومة. حيث يتم ربط القاذفات وجدولتها من غرف عمليات بالقطاع، ويمكن لذلك التواصل والربط تمكين المقاومة من تحويل غزة، وهي منطقة صغيرة نسبياً، إلى سيناريو مليء بالتحديات للقوات البرية للجيش الإسرائيلي، حيث يمكن أن يربط الخط الدفاعي بالألغام والفخاخ والدمى وتفعيل ذلك عن بعد من خلال غرف عمليات معدة لذلك، مثل هذا النظام الدفاعي المرتبط بشبكة أنفاق حفرتها المقاومة في غزة من أجل حمايتها من الهجمات من قبل الجيش الإسرائيلي. ومن خلال بناء شبكة من الألياف البصرية إذا كانت لدى المقاومة المهارة الكافية أو الكابلات، يمكنها من إدارة عمليات الضبط والسيطرة وتنسيق العمليات في أرض الميدان بكفاءة عالية” [5].
يبدو واضحا أن شبكة الاتصالات الأرضية الخاصة بالمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، لا تقل أهمية عن ضابط ميداني كبير يوزع الأدوار ويحدد المهمات ويرسم خارطة المواجهة عبر توجيهاته التكتيكية، لقد وازت هذه الشبكة حسب اعترافات قادة ميدانيين في المقاومة الفلسطينية، الصواريخ وعمليات الانزال، في تنسيقها للجهود بين المقاتلين خصوصا الذين يتخندقون في الأنفاق ونقاط التموضع [6].
ويوضح قائد ميداني كبير في كتائب القسام يكنى بـ “أبو معاذ”، أن هذه الاتصالات وفرت الخسائر في الأرواح، خصوصا إذا ما أخذ بالاعتبار أن الاتصالات الخلوية واللاسلكية أيضا كانت تخضع لرقابة الاستخبارات الإسرائيلية وتكون عرضة للتصنت، أما التي يجري استخدامها الآن في غزة وفرت استهداف المجاهدين وتتبع المعلومات الخاصة بإدارة المعركة.
وأكد القائد الميداني أن الضرورات العسكرية استوجبت اعتماد بديل عن الاتصالات المتعلقة بما يعرف بـ السيناو، الماخشير التي كانت تستخدمهما المقاومة، باعتبارها الوسيلة الوحيدة للاتصال، والتي استطاع المحتل حينها اختراقها بتقنياته المتطورة.
وحرّمت الكتائب على مقاوميها استخدام الاتصالات الخلوية خصوصا التي يجري تشغيلها بواسطة الهواتف الذكية ذات خصائص تحديد الموقع، وذلك تجنبا لاستهدافهم. وذيع بين المقاومين ضرورة نزع الشريحة الخلوية من هواتفهم الخاصة تلافيا لتعقب حركتهم [7].
وقال المسؤول في “كتائب القسام ـــ لواء خانيونس” ومهندس الاتصالات الملقب بـ “أبو عمير” في حوار أجرته “صحيفة الأخبار” اللبنانية أن لشبكة الاتصالات الخاصة دور بارز وهام في الكشف عن مصير عناصر من أفراد المقاومة احتجزوا في نفق تحت الأرض عند الحدود الشرقية للمحافظة الجنوبية، والبالغ عددهم 25 مقاتلاً، ومضى المسؤول في كشف هذا الدور بالقول “عندما قطعت الاتصالات بيننا وبين المقاومين في الأنفاق عند الحدود الشرقية لخانيونس، ومع إعلان بدء سريان التهدئة المؤقتة في العاشر من آب، خرجنا برفقة رجال الدفاع المدني لإرشادهم إلى مكان المجاهدين، وحين العثور على طرف أسلاك الاتصال الأرضي الخاص بنا، أوصلناها بجهاز اتصال، وبالفعل تمكنا من إجراء مكالمة معهم حتى أنقذوا، فيما جرى انتشال ستة مجاهدين آخرين كانوا قد ارتقوا خلال مدة الاحتجاز التي بلغت 22 يوماً”[8].
حرب إسرائيل على شبكة الاتصالات السلكية
تمثل العقدة المعلوماتية للجيش الصهيوني هاجس كبير في عدم امتلاكها لمعلومات عن المقاومة وخططها العسكرية وتوقيت العمليات وعدم توقع أسلوبها، الاتصالات السلكية شكّلت معضلة معلوماتية استخبارية لدى الجيش الصهيوني، من حيث جهله بتحركات المقاومين وأماكن تواجدهم وتمركزهم، ما جعل المقاومين يتحكمون في سير العمليات، بفعل مراكمة المقاومة لقوتها وإعدادها فقد بنت المقاومة شبكات أرضية من الأنفاق القتالية، وتخزين الأسلحة، وصمم بداخلها غرف للعمليات والاستخبارات، كما أقامت المقاومة شبكة اتصالات سرية، بهدف تفعيل التنسيق الميداني بين مختلف وحداتها القتالية وأذرعها الأمنية ومناطق القطاع المختلفة، فالعدو اليوم يعي أن سبب مناعة القسام ضد التجسس هي شبكة الاتصالات والتي تعتمد على السلكي وليس اللاسلكي.
مثّل استخدام الفصائل الفلسطينية الاتصالات الخاصة سابقة في تاريخ الصراع ضد الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، خصوصاً أن شبكة الاتصالات الداخلية ساعدت في الحؤول دون وصول آذان رجال مخابرات العدو إلى المكالمات الخاصة بين المقاومين والتنصت عليها، وكان ذلك في السابق يساعد في الكشف عن الكثير من الخفايا والتكتيكات التي تتبعها الأذرع العسكرية [9].
المقاومة تعي تماما أن شبكة اتصالاتها الداخلية الخاصة بها هي هدف كبير لإسرائيل، لذلك تحتاج لدرجة عالية من الدقة والسرعة مع توفر قدر كبير من الأمن والسرية، مع العمل على التصدي لاحتمالات تدخل العدو للتجسس والإعاقة والتشويش، أو بث إشارات كاذبة للتضليل والخداع.
في هذا الإطار يقول الباحث في الشأن الإسرائيلي صالح النعامي إن الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية تعتمد على مصدرين أساسيين لجمع المعلومات الاستخبارية اللازمة لحربها ضد حركات المقاومة الفلسطينية، وهما المصادر البشرية، القائمة على تجنيد العملاء، والمصادر الإلكترونية، القائمة على الاستعانة بأحدث ما توصلت إليه التقنيات التكنولوجية.
وقال النعامي إن الوحدة 8200 في جهاز الشباك الإسرائيلي تعتمد على تعقب أجهزة الاتصال السلكية واللاسلكية، مبينا أن الذي يساعد الوحدة على أداء مهمتها بشكل تام، هو حقيقة أن إسرائيل أقامت شبكة الاتصالات في الضفة المحتلة وقطاع غزة [10].
وترتبط المقاسم الرئيسية لشبكة الاتصالات الفلسطينية بشكل تلقائي بشبكة الاتصالات الإسرائيلية “بيزيك”، إلى جانب ذلك فإن شبكات الهاتف النقال العاملة في الأراضي الفلسطينية، تعتمد على إسرائيل في الكثير من خدماتها، فضلا عن توقيعها على اتفاق مع شبكة “أورانج” الإسرائيلية للاتصالات، الأمر الذي يجعل الوحدة 8200، لا تحتاج إلى كثير من الجهود من أجل رصد المكالمات الهاتفية.
كشف برنامج “ما خفي أعظم” عن تفاصيل عملية تسلل وحدة إسرائيلية سيريت متكال” إلى غزة في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، وبيّن أن الوحدة كانت تستهدف زرع منظومة تجسس لاختراق شبكة اتصالات المقاومة في غزة، حسب ما قاله القائد في جهاز استخبارات كتائب القسام أبو أنس. [11]
شكلت شبكة الاتصالات الخاصة بالمقاومة الفلسطينية تغيرا؛ غيّر قواعد الصراع، حيث تم بناء نظام حماية يعمل بشكل آلي ومزود بطبقات حماية ووحدات للمراقبة والتحليل، وكشف البرنامج عن منظومة تجسس إسرائيلية، تم زرعها بواسطة عملاء في منطقة “الزوايدة” بتاريخ 5/5/2018، لكن المقاومة أفشلت هذا المشروع الاستخباري، رغم استشهاد عدد من كتائب القسام أثناء العملية.
عقب هذه العملية صرحت القسام بالقول إن الشهداء كانوا،” في مهمةٍ أمنيةٍ وميدانيةٍ كبيرة، حيث كانوا يتابعون أكبر منظومة تجسسٍ فنيةٍ زرعها الاحتلال في قطاع غزة خلال العقد الأخير للنيل من شعبنا الفلسطيني ومقاومته، حيث نجح شهداؤنا الأبرار بعد عملٍ وجهدٍ دؤوب في الوصول إلى تلك المنظومة الخطيرة، وتمكنوا من حماية شعبنا ومقاومته من مخاطر غايةٍ في الصعوبة، وأفشلوا هذا المخطط الاستخباري التجسسي الكبير الذي كان يعول عليه العدو الصهيوني وأجهزة مخابراته، ولقد قدموا أرواحهم الطاهرة فداءً لشعبهم وهم يتعاملون مع هذه المنظومة الخطيرة التي كانت تحمل في تركيبتها التفجير الآلي التفخيخ كما أعدها العدو الصهيوني[12].
كما كشف برنامج “عوفدا” في القناة 12 العبرية عن تفاصيل جديدة والأسباب الرئيسية، لفشل عملية خانيونس التي نفذتها وحدة سيرت متكال التي تعتبر نخبة النخبة في الجش الإسرائيل، وأن القرار اتخذ في قسم العمليات الخاصة بالجيش بتنفيذ عملية تهدف لمنح إسرائيل إمكانية رصد ومراقبة ما يحدث في الأماكن التي تتخذ بها أخطر القرارات في حماس، وجاء في البرنامج أن رئيس أركان جيش الاحتلال السابق “جدي أيزنكوت” قال خلال جلسات مغلقة إن هذه العملية في خانيونس جرى التحضير لها على مدار أشهر طويلة، وشارك بالتخطيط لها أفضل ضباط جيش الاحتلال على الإطلاق، وأن قرار تنفيذ عملية خانيونس رغم المخاطرة، كان بسبب هدفها الكبير جداً والضرورة الخطيرة[13]
كما تمكن مهندسو القسام من اختراق أجهزة الوحدة الإسرائيلية والسيطرة على تسجيلاتها، مما مكنهم من التعرف على عناصر الوحدة، وأماكن تدريبهم، وأدوارهم ومسار رحلتهم، وواصلت العمل المستمر برفقة أجهزة الأمن على تحجيم وضرب قدرات العدو، كل ذلك يرجع لتميز استخبارات المقاومة وأجهزتها الفنية التي تتشكل بصورة تتلاءم مع متطلباتها كفصائل مقاومة.
المختص في الشأن الإسرائيلي والمتابع للإعلام العبري الدكتور عدنان أبو عامر أشار إلى أن الإخفاق الإسرائيلي في خانيونس، كما كشفته “ما خفي أعظم”، شكل نموذجا صارخاً، على فداحة الأخطاء الاستخبارية، والثغرات الأمنية التي وقعت فيها “أسطورة” المخابرات الإسرائيلية.
وشدد أبو عامر: “الفشل الأكبر لمخابرات الاحتلال يكمن بنجاح المقاومة في غزة، وهي تخوض حرب عصابات، في خطف دولة بأكملها ساعات طويلة، بعد سنوات من التسلح والتخفي، فاستفاقت إسرائيل لتجدها أكثر تنظيماً، وأكفأ قتالية وتدريباً، يواجه مقاتلوها نخبة النخبة الإسرائيلية وجها لوجه، ومن مسافة صفر!”[14].
ما حدث من فشل في عملية خانيونس وما سبقها من جهد صهيوني لمراقبة اتصالات المقاومة، كشفت خيبة وهشاشة الاستخبارات الإسرائيلية عمليا وميدانيا في قطاع غزة أثناء عملية حد السيف وما بعدها، بسبب إخفاق عملياتي في إعداد وتنفيذ العملية، بالإضافة إلى السلوك التكتيكي الخاطئ على الأرض، وظهر واضحاً كيف أصيبت إسرائيل بجنرالاتها ومحللوها وكبار باحثيها بالذهول، ولم يستفيقوا من هول الخيبة الإسرائيلية بعد.
المراسل العسكري لصحيفة “يديعوت أحرنوت” العبرية، يوسي يهوشع، قال إن معركة الوعي التي يخضوها الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن العالم الشاباك منذ سنين في قطاع غزة، ارتدّت عكسياً فتأثر بها الإسرائيليون أكثر من سكان القطاع”، وكتب اليكس فيشمان المعلق العسكري في “صحيفة يديعوت” العبرية، أن العملية التي قُتل فيها المقدم م. كشفت عن إخفاقات في واحدة من أكثر الهيئات سرية في الجيش الإسرائيلي، فعندما يتم الكشف عن مثل هذه الشبكة، فإنها تشكل صدمة حقيقية لمؤسسة الاستخبارات التي قامت ببنائها. لأنه في مثل هذه الحالة، من الضروري بناء بنية تحتية جديدة، وهذا قد يستغرق شهوراً أو حتى سنوات. بطبيعة الحال، خلال الفترة الانتقالية كان هناك انخفاض في نطاق نشاط وقدرات تلك المنظمة[15].
أثبتت المعارك العسكرية التي شهدها قطاع غزة، قدرة القسام على التعامل مع مخططات العدو والتهديد الأمني بشكل فوري سواء في العمل العسكري الميداني أو الاستخباري والأمني، من خلال تقدير سريع ودقيق للموقف ولنوع الخطر والهدف ولمنع العدو من الإفلات أو من ارتكاب جرائمه
الخلاصة:
شبكة الاتصالات السلكية للمقاومة توضح بعضاً من ملامح حرب الاستخبارات المحتدمة بين المقاومة والاحتلال على أوسع نطاق، وأن شبكة اتصالات المقاومة بما تعنيه من معلومات هامة والخطط والقرارات الاستراتيجية وخطة الحرب والعمليات أصابت الاحتلال بعمى استخباري، بل تبين أن هذه الحرب الخفية هي الأساس والمنطلق لأي حرب أخرى، بل وأبعد من ذلك، فإن إسرائيل ترمي بكل ثقلها الاستخباري التجسسي ضد المقاومة في غزة، لغايات التحضير لعدوان واسع النطاق تحسم فيه إسرائيل حربها مرة واحدة وإلى الأبد كما يخططون
بعد المتابعة لمدى استيعاب الجيش الإسرائيلي لعديد الاستنتاجات لحروب ومعارك سابقة وخاصة دروس الأرض نلحظ وجود العديد من الثغرات والفجوات في عملية التعلم والاستجواب واستخلاص الدروس وتطبيقها، هذه الفجوات لدى العدوِّ ليست موجودةً على المُستوى الاستراتيجيِّ فقط، ولكن أيضًا في العمليّات التَّكتيكيَّة الميدانية.
كشف القوات الخاصة الصهيونية وما تبع ذلك من جهد أمني، أسهم بتقويض وتشويش عمل الشبكات الإسرائيلية التي تقوم بجمع المعلومات عن المقاومة، وأن خسارة الكنز الاستخباراتي سيجعل من الصعب على الاحتلال التعامل مع ما تعده المقاومة من خطط وجهد عسكري ضدها في الداخل والخارج.
بنك المعلومات التي باتت تمتلكه القسام سيسهم في مراقبة أعمال بناء القوة اللازمة لدى العدو من تدريب وتسليح وتجهيز ومناورات وإعلام وخطط وحركة وتصعيد وتحشيد ودعاية وإجراءات ضد المقاومة لأن رصد تلك الإجراءات تتيح معرفة مستوى جهوزية العدو وإمكاناته بالقيام بأعمال عدائية ومدة تلك الأعمال.
لقراءة ملف ال PDF إضغط هنا
الهامش
[1] – موقع القسام، كيف مكّن سلاح الإشارة المجلس العسكري من الانعقاد الدائم؟، الرابط https://www.alqassam.net/arabic/news/details/13200.
[2] – الإعلام الحربي لسرايا القدس، “سلاح الإشارة” لسرايا القدس: لغة السين بين القيادة الجند.. وعين المجاهد على الميدان، الرابط https://2u.pw/CO8X4.
[3] – كيف مكّن سلاح الإشارة المجلس العسكري من الانعقاد الدائم؟، موقع القسام، الرابط https://www.alqassam.net/arabic/news/details/13200.
[4] – نفس المصدر السابق.
[5] – رامي أبو زبيدة، هل قامت المقاومة ببناء “خط ماجينو” على شكل شبكة صواريخ ذات إدارة مركزية؟، موقع القسام https://www.alqassam.net/arabic/articles/details/6304.
[6] – موقع الرسالة للإعلام: شبكة اتصالات المقاومة.. ضابط إيقاع الميدان، الرابط https://2u.pw/3PCcA.
[7] – موقع الرسالة للإعلام: شبكة اتصالات المقاومة.. ضابط إيقاع الميدان، الرابط https://2u.pw/3PCcA.
[8] – نبأ برس: شبكة اتصالات خاصة إنجاز هام للمقاومة، الرابط https://npaapress.com/ar/post/29221.
[9] – بيان عبد الواحد، ولصمود غزة شبكة اتصالاته الخاصة، موقع الأخبار الرابط https://al-akhbar.com/Arab/36327.
[10] – موقع الرسالة للأعلام: شبكة اتصالات المقاومة.. ضابط إيقاع الميدان، الرابط https://2u.pw/3PCcA.
9 – برنامج ما خفي أعظم، أربعون دقيقة، قناة الجزيرة الرابط https://2u.pw/oitBJ.
[12] – بيان عسكري صادر عن كتائب الشهيد عز الدين القسام، بتاريخ6/5/2018، الرابط https://www.alqassam.net/arabic/statements/details/5361.
[13] – شبكة القدس الإخبارية، ترجمات عبرية، الاحتلال يعترف: فشلنا في عملية خانيونس والقوة ارتكبت أخطاء جسيمة، الرابط https://2u.pw/vQVrR.
[14] – موقع فلسطين الآن: تحليل: هكذا استفادت المقاومة من أخطاء وحدة “متكال” الاستخبارية الرابط https://paltimesps.ps/post/244846.
[15] – موقع فلسطين الآن، عملية خانيونس.. فشل أسطورة الأمن الإسرائيلية بأفعال قسامية، الرابط https://paltimesps.ps/post/242599