خاص : 180 تحقيقات
لا شك أن المقاومة الفلسطينية واللبنانية لديهما فضل السبق في هذا الجدل والإرباك عند الإسرائيليين، والان يعتقدون أنهم أمام تحدي جدي، المقاومة لم تعد تخوض حروب عصابات من خلال مجموعات متناثرة وخلايا عسكرية مشتتة، فالجيش الإسرائيلي اتفق على تسمية المقاومة الفلسطينية في غزة بأنها جيش شبه نظامي فيما ان حزب الله جيش نظامي، وهذا يجعل الإسرائيليون يعتقدون اعتقاداً جازماً بالرغم من اختفاء الحروب النظامية بعد تراجع الجيوش العربية مصر وسوريا والعراق.
بظهور تحديات لا تقل خطورةً هي المنظمات من دون الدول والتي تخوض حروب عصابات وتنحاز بشكل اكبر لحروب الجيش النظامي، وهذا يضع تحدي للجيش الإسرائيلي لم يكن حاضراً في أدبياته السابقة، تجعله في حالة تكيف إجباري وقسري مثل ما حصل مع الجيش الأمريكي في أفغانستان في العراق والجيش السوفيتي في أفغانستان والجيش الإسرائيلي في لبنان وغزة، بالتالي المقاومة الفلسطينية واللبنانية فرضت نفسها على إحداث هذا التغير القسري والإرباك اللافت في مخططات الجيش الإسرائيلي في السنوات الأخيرة
أولا: علاقة تطور قدرات المقاومة بجاهزية الجيش الإسرائيلي
هل للجدل الدائر حول جاهزية القوات البرية علاقة بتطور قدرات المقاومة وامتلاكها صواريخ موجهةً دقيقةً وعالية الكفاءة، وهل هذه المتغيرات كافية لتبرير الحيرة المفاهيمية لدى العدو؟
الخطط الصهيونية المتواصلة تؤكد ما تشكله المقاومة من حالة استنزاف للمقدرات الصهيونية على الصعيد البشري والمادي. وقد أثبتت المواجهة المباشرة قدرة المقاتلين المقاومين على مواجهة جيش العدو، على الرغم من العمل الدؤوب على استخلاص العبر، وما أداء المقاومة في العام 2006 والعام 2014، من خلال التصدي للقوات البرية، إلا خير دليل على أن أرض الميدان لها لغة مختلفة
تطور القدرات البشرية والمادية لقوى المقاومة إيجاباً، أبرز نقاط ضعف سلاح المشاة عند العدو؛ الأمر الذي يجبر العدو على التوقف لاستخلاص العبر والتغيير المناسب في مسار بنائه لقدراته القتالية.
الانقلاب الذي حدث في داخل جيش الاحتلال يرجع في أصله إلى الحرب التي وقعت على غزة عام 2014 حيث أثبتت الحرب ان العدو المقابل قد تطور وامتلك الأسلوب وغير الوسائل وعددها، وعدم قدرة القوات البرية على حسمه في هذه الحرب هو ما دفع ايزينكوت إلى تغير تركيبة الجيش كلياً كي تتلاءم مع العدو الجديد والفعال والقادر على الحسم، ومع طبيعة استمرار المعركة لوقت طويل وهو الأمر الذي يخدم العدو ولا يستطيع الجيش الإسرائيلي الصبر عليه.
في غزة أصبح العدو متيقناً أن المقاومة قادرةً على قصف تل أبيب بصواريخ ذات شحنات متفجرة عالية. ومدن أبعد من تل أبيب أيضا. وقد أثبتت ذلك معركة سيف القدس الأخيرة عندما قصفت المقاومة تل ابيب بصليات كبيرة من هذه الصواريخ لترسل للعدو رسالةً مفادها أن صواريخ المقاومة لم تعد ذات ضرر محدود، فحجم التأثير لصورايخ المقاومة خلال سيف القدس كان واضحاً.
إذن المقاومة اليوم تمتلك أسلحة متطورةً وصواريخ ضد الدروع وصواريخ ذات شحنات متفجرة كبيرة وذات مدى أكبر أيضا. والعدو يعرف ذلك جيداً. هذه القدرة تجعل العدو متوجساً جداً من الدخول في صراع مع المقاومة كونه هو سيكون متضرر من هذه الحرب.
وانطلاقاً من هذه المعرفة فان القيادة العسكرية الإسرائيلية لا تريد حرباً لأنها تعلم أنها ستخسر فيها. ولذا نجد هذا الجدال الدائر حول جهوزية الجيش الإسرائيلي متوجهاً في أساسه نحو التلميح إلى إبعاد الجيش عن أي حرب ضروس مع المقاومة.
ثانياً: استيعاب الجيش الإسرائيلي الدروس المستفادة من العمليات العسكرية؟
فوجئ الجيش الإسرائيلي مراراً وتكراراً خلال مواجهته فصائل المقاومة، وكانت المفاجأة بسبب الفرق بين المعرفة والفهم، وصعوبة استيعاب أهمية التهديد، وعدم استعداده لذلك، ونلحظ بعد كل عمل عسكري يخوضه الجيش الصهيوني يعلق العسكريون بالجيش” لقد تم دراسة العملية واستخلاص الدروس المستفادة منها ونعمل الآن على تنفيذها “.
من خلال متابعتي للتقارير العسكرية الإسرائيلية وتحليلات المختصين العسكريين الإسرائيليين، حول طرق وأدوات الجيش الإسرائيلي في إدارة الدروس المستفادة من المعارك مع المقاومة، خاصةً بعد الكثير من الانتقادات العلنية للجيش، طرحت عدة أسئلة منها، هل يتعلم الجيش الإسرائيلي حقاً من الدروس؟ وهل الدروس التي يستخلصها صحيحة؟ وهل إذا تصرف الجيش وفقاً للدروس المستفادة وتم تنفيذها فسوف يستعد للحرب القادمة؟
بعد كل عملية عسكرية يبدأ الجيش في تحديد الدروس المستفادة سواء كانت هذه العملية محدودةً أو موسعةً، مباشرةً أو غير مباشرة، وبالتالي لا يمكن الجزم بأن الدروس المستفادة منها قابلة للتطبيق في الحرب القادمة.
يقول اللفتنانت كولونيل دوتن دورك مرشد أكاديمي لدورة القيادة والأركان: “عدم قدرتنا على مراعاة المنظور التاريخي والمستقبلي بشأن القضايا يقودنا إلى مواجهة التحديات دون استجابة مناسبة ولذلك نتفاجأ في كل مرة، كما حدث بالتحدي المتمثل في التعامل مع الأنفاق في إطار المواجهة المستمرة في قطاع غزة، وحرب لبنان الثانية، وعملية الرصاص المصبوب، وعملية الجرف الصامد، والتحدي المتمثل بتنظيم وتطوير قدرات القوات البرية . صحيح أن عملية التعلم واستخلاص الدروس وتنفيذها تتم بطريقة تمكننا من تقليل المفاجآت لقواتنا في الحرب وزيادة الفعالية التشغيلية للقوات.
بمراجعة سريعة لعدد من المعارك التي خاضها الكيان الصهيوني، نلحظ العديد من الحالات التي فاجأت الجيش الإسرائيلي على الرغم من معرفته بها، فخلال الحروب والمواجهات التي خاضها الجيش الإسرائيلي منذ إنشائه حتى الآن صدم بعدد لا بأس به من المفاجآت مختلفة الأنواع، منها اندلاع الحرب بشكل مفاجئ كما حدث في حرب أكتوبر 73، ومنها ضرب صاروخ C – 802 على البارجة البحرية في حرب لبنان الثانية 2006، وكذلك استخدام الأنفاق في حرب غزة 2014 م، وضربات المقاومة خلال سيف القدس 2021، ويرى الإسرائيليون أن المفاجأة لا تحدث سهواً لدى الاستخبارات لديهم، فالكثير من حالات التحقيق بالتهديدات كانت معروفةً لدى استخبارات العدو ولدى القادة الميدانيين والقيادة السياسية العليا، ولعل أكثر مثل يضربه الاحتلال الإسرائيلي هو تهديد الأنفاق الهجومية من قطاع غزة التي استخدمت خلال حرب غزة 2014 م، وتوضح هذه الحالة وغيرها من الحالات حجم الفجوة الكبيرة بين الاعتراف بالتهديد وفهمه واستيعابه أثناء القتال .
فهناك فجوة بين النظرة السائدة والواقع في ميدان القتال، وهناك منافسة بالتعلم واستخلاص الدروس المستفادة، وتقدير الموقف، وأخذ العبر بين الجيش الإسرائيلي وقوى المقاومة، وكجزء من هذه المنافسة يحاول الاحتلال الإسرائيلي تعديل عقيدته القتالية على المستوى التكتيكي، ويتم التغيير المنهجي في هوية ( العدو ) وطابعه العسكري، ويسعى لضبط تصور الرد على هذا التغيير، ووفقاً لقيادة العدو العسكرية فإنهم نجحوا بالفعل في الجزء الأكبر من المهمة، وتم تحديد التغير في البيئة، غير أنه ما زال هناك تأخر في فهم الفرق بين التغيير ونماذج استخدامها، وبعبارة أخرى هناك فجوة بين التغير في طبيعة البيئة الاستراتيجية والنهج النظامي المستخدم في الجيش الإسرائيلي .
يرى المحللون العسكريون الإسرائيليون أن بناء القوة العسكرية والاستعداد هي مسألة قرار حول السيناريو الذي سيتم فيه بناء القوة العسكرية من خلال: قيود الموارد، والقيود المادية والبشرية، وقدرات التكنولوجيا في (إسرائيل)، يرتبط ذلك أيضاً بالعلاقات التجارية العسكرية مع الدول الأخرى، وخاصةً الولايات المتحدة.
يقول اللفتنانت كولونيل دكتور دوتن دورك في دراسة أعدها حول عملية استخلاص الدروس من العمليات العسكرية، أنه من خلال عمليات التفتيش المختلفة التي تقوم بها هيئات الرقابة الداخلية والخارجية، يظهر العديد من أوجه القصور في استعداد الجيش لأداء مهامه المختلفة، بسبب التوصيات التي تمت في بناء القوة العسكرية، وكذلك في إدارة المخاطر وفقاً للتوترات المختلفة، على سبيل المثال، مراقب الدولة، القاضي يوسف حاييم شابيرا، الذي علق في تقريره حول عملية “الجرف الصامد” بأن الفجوة في استعداد القوات للتعامل مع تهديد الأنفاق كانت معروفةً للجيش ونشرت في تقرير سابق منذ عام 2007 . ومع ذلك، أشير إلى وجود عيوب وتقصيرات خطرة في استعداد الأجهزة الأمنية للتعامل مع هذا التهديد في الأعوام التي سبقت عملية “الجرف الصامد” في صيف 2014 وخلال العملية
الاحتكاك الشديد في ساحة المعركة والالتقاء بالتحديات التي كانت معروفةً من قبل و القدرة على التعامل معها تزيد من حدة الفجوات وطرق المواجهة المفترض العمل بها، فالحروب والمعارك تكشف الكثير من الفجوات والتحديات بين الوضع المرغوب واستعداد القوات والوضع الحالي
فقد كانت حرب لبنان الثانية نموذجاً لذلك، حيث دخلت القوات البرية الحرب بفجوات على جميع المستويات : من قادة الألوية والطائرات بدون طيار والافتقار إلى الخبرة ومشغلي الأسلحة في القيادة والسيطرة على الوحدات القتالية وحجم الثغرات في المناورات الأرضية .
باعتقادي هناك عدة أسباب لفشل العدو في التنبؤ بساحة المعركة المستقبلية:
منها الإخفاقات الاستخباراتية، والفشل في اتخاذ القرار، وإخفاقات الجندي نفسه، ويتم التعبير عن إخفاقات الجندي في عدم فهمه للتعليمات وما يترتب على ذلك من ترجمة خاطئة على أرض الميدان، والتحيز المحتمل لدى القائمين على عملية استخلاص الدروس بحيث يميلون إلى استخلاص الدروس التي تكمن وراء تفكيرهم، وتعزيز الاتجاهات التي يعملون فيها، وبالتالي، لا يوجد اختراق جدي ونوعي، ولكن تحسن تكتيكي في الأداء .
كما يرى عدد من الخبراء العسكريون، أن الافتراض بوجود ثغرات معروفة بإدارة المخاطر في بناء القوة والقدرة يؤدي مع اندلاع الأعمال العسكرية، أن تحاول الأجهزة الرقابية بتحديد الدروس المستفادة بسرعة لبناء القوة والاستعداد، من أجل الحصول على الموارد اللازمة من خلال الميزانيات المفتوحة، هذه الخطوة صحيحة من ناحية، وتمكن من زيادة سريعة نسبياً في مستوى تأهب القوات، ولكن من ناحية أخرى يوجد خطران مهمان :
من المحتمل أن تأخذ هذه الخطوة الموارد التي كان من المناسب أن تستثمر في قضية أخرى مهمة وأكثر تأثيرا في بناء القوة للحرب القادمة.
قد يكون الدرس المستفاد غير مكتمل بسبب عدم وجود عملية احترافية وكاملة لدراسة الموضوع والتحقيق فيه.
يقول العميد ساعر تسور، قائد فرقة الاحتياط 252 “من الممكن القول إن هناك فجوات كبيرةً في الطريقة التي يتم بها تخطيط وإدارة الدروس المستفادة من الحروب والعمليات في الجيش الإسرائيلي بشكل عام وفي القوات البرية بشكل خاص، وان هناك فجوة في استيعاب الدروس وإخفاقات ميزت عملية التعلم من الدروس المستفادة خلال المعارك العسكرية، بالإضافة لمسألة ثقة القادة وضباط الأركان بالدروس المستفادة ويظهر صعوبةً لدى القادة في استيعاب هذه الدروس” .
من الفحص والمتابعة لمدى استيعاب الجيش الإسرائيلي لاستنتاجات الحروب والمعارك وخاصةً دروس الأرض يدل ذلك لوجود العديد من الثغرات والفجوات في عملية التعلم والاستجواب واستخلاص الدروس وتطبيقها، هذه الفجوات لدى العدو ليست موجودةً على المستوى الاستراتيجي فقط، ولكن أيضاً في العمليات التكتيكية.
وعلى ذلك فإنه قد تكون هناك عمليات تكتيكية للمقاومة في الحروب التي تقع في الوقت الحالي، وقد تكون هناك أحداث استراتيجية هامة، وهذا ما كان في حالة اختطاف جلعاد شاليط، فقد تحول الأمر من تهديد تكتيكي إلى مشكلة استراتيجية في ساحة المعركة، تحول المفاجأة بالعمل التكتيكي إلى عمل ذي أهمية استراتيجية في القتال، فالقتال بحد ذاته يشمل قدراً كبيراً من المعلومات حول العوامل المسببة للمفاجأة، حيث يتم تضمينه الأسلحة المبتكرة والتقنيات القتالية، يتبين من التجربة أنه وعلى مر التاريخ تفاجأ الجيش الإسرائيلي باستراتيجيات وتكتيكات عسكرية جديدة يستخدمها خصمه، وفي كثير من الحالات أدت المفاجأة التكتيكية والاستراتيجية إلى ضرورة إيجاد حلول فورية أثناء القتال عجزت القوات الإسرائيلية على التعامل معها ميدانياً .