بشير الوندي يكتب: مباحث في الاستخبارات .. علم نفس الجواسيس (1) — شؤون عسكرية وأمنية

بشير الوندي يكتب: مباحث في الاستخبارات .. علم نفس الجواسيس (1)

بشير-الوندي-يكتب-مباحث-الاستخبارات-علم-نفس-الجواسيس

مدخل

يصنف التجسس وفق المعايير الاخلاقية على نوعين , تجسس ايجابي يتسم بالتضحية والبطولة وخدمة الوطن والمجتمع , وتجسس سلبي يلبس صاحبه ثوب الخيانة المريعة للوطن وللمجتمع , ورغم البون الشاسع بين النوعين , الا ان التجسس بشكل عام فيه من الضغوط النفسية الشيء الكثير , ودراسة مقدماته وآثاره على الجاسوس لها دور كبير في كشف التجسس السلبي مبكراً وفي فهم الدوافع له , كما انه مهم في فهم الضغوط التي يقع فيها من يتجسس لصالح وطنه والتي قد تترتب عليها آثار مدمرة لابد من معالجتها , وسنتناول خلاصات نفسية لكلا النوعين من التجسس في ضوء علم النفس بمبحثين متتاليين , حيث سنتناول في هذا المبحث الرؤية النفسية للجواسيس الابطال , فيما سنتناول في المبحث القادم علم النفس والجواسيس الخونة.

علم النفس والتجسس البطولي (الايجابي)

يرتكز دافع علماء النفس الاستخباريين في بحثهم النفسي على حالات الجواسيس الابطال على دافع اساسي هو تقديم خدمة نفسية واجتماعية لهم ولعوائلهم قبل واثناء وبعد قيامهم بمهامهم الجسيمة ومحاولة التقليل من آثارها واعادة توازنهم كأقل واجب تقدمه مؤسستهم جراء بطولتهم , وهنالك اربعة محاور يركز عليها خبراء علم نفس التجسس في باب التجسس البطولي وآثاره على من يتطوعون للاقدام عليه , وليست مهمتنا هنا طرح المعالجات النفسية بقدر القاء الضوء وتوصيف المشكلة , فالمعالجات من اختصاص علماء النفس والاطباء المتخصصين الذين يعملون بالتعاون مع الجهات الاستخبارية , والمحاور او المشكلات الاربع هي كما يلي :

الاول : بطولة دون نياشين

ان المكلفين بالتجسس لصالح البلاد سواء كان ذلك خارج بلادهم في بلد العدو او داخل بلادهم داخل بؤر التنظيمات الارهابية والعصابية , فإنهم يكافحون في الظل , ومن النادر رؤية بطولة احدهم تظهر للعيان , فمكتب صغير في الجهاز الاستخباري هو الوحيد الذي يشهد شجاعتهم سراً وهو مالا يراه المجتمع خارج العالم السري , بل يكاد يكون من المستحيل على المتخصصين في الاستخبارات الحفاظ على سلامة العملاء عندما يدفعونهم للتجسس ضد مجموعات مثل الأهداف الإرهابية , فتخيل انك جندت شخصاً ليكون مصدرك داخل مجموعة ارهابية ثم تم القبض عليه وقُتل في ساحة القرية أمام الأصدقاء والأقارب من قبل الإرهابيين باستخدام اساليب بشعة , فقلما توجد طريقة لإظهار التعاطف الإنساني أو التعاطف المجتمعي او التكريم له.
ان التجسس الايجابي عمل بطولي لاناس مختلفون في صفاتهم تمامًا من البشر ، فمخاطر التجسس في السياقات التي يخدمون فيها أكبر من أن تجتذب الأنانيين او المترددين , فمعظم من تركز عليهم المؤسسة كجواسيس عقلاء محتملين يترددون في قبول الدخول في مجال التجسس حين يقيّمون بشكل واقعي المخاطر وقسوة وقدرات التجسس المضاد ومخاطر كشفهم من قبل تنظيم ارهابي كداعش , ولكن هنالك ابطال قلائل من العقلاء بينهم يدركون ذات المخاطر ، لكنهم يتخذون خيار المغامرة والتضحية ولا يتوقعون التشجيع العلني او الاستمتاع بالتصفيق عندما يكتمل تجسسهم رغم إنهم يلعبون دورًا مباشرًا في إنقاذ ارواح مجتمعهم الذي لن يعرف أبدًا أنه تم إنقاذه بفضل تضحياتهم ، وهذا شكل فريد من أشكال البطولة.

الثاني : الوحدة الاجبارية


برغم سلبية الوحدة الا انها من الصفات المرغوبة في تجنيد من يراد لهم ان يقوموا بالعمل التجسسي , فإذا كنت جاسوسًا ، فإن الشعور بالسلبية وعدم الثقة كطريقة للحياة قد تحميك في كثير من الأحيان , فمن الجيد ألا تقترب كثيرًا من الناس أو التفاعل معهم ، ومن الأفضل أن تكون مرتابًا ، خائفًا من الالتزام , لذا يفضل المطلقون او من لم يتزوجوا أبدًا ، فيجب ترك الماضي خلفهم لفترة قد تطول كثيراً .
الا ان الجاسوس المضحي قد تفرض عليه الوحدة فرضاً خلافاً لطبيعته فيعاني من ضغوطها , فهو بعيد عن محيطه العائلي لفترة طويلة غالباً , كما انه بعيد حتى عن الضابط المسؤول عنه الا عبر طرق غريبة وسرية للاتصال بينهما , ويعلم انه جندي مجهول قد يقتل دون ان يدري به احد او ان يرثيه احد .
ان الشعور الضاغط بالوحدة مؤلم وهو يُنشِّط نفس الجزء من الدماغ المسؤول عن الألم الجسدي , على عكس التواصل الاجتماعي الذي يشعرنا بالمتعة وبالرضا ويساعدنا على تقليل تراكم المشاعر السلبية , ولذا فإننا غالبًا ما نلجأ إلى الآخرين في أوقات التوتر.
بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من الوحدة المزمنة او الاجبارية كالجواسيس ، فإن أنظمة التوتر والإثارة تنشط لفترات طويلة من الزمن وقد تصبح مزمنة حتى بعد انتهاء مهامهم, ويمكن أن يؤدي تنشيط هذا النوع إلى العديد من المشكلات الصحية العضوية بما في ذلك ارتفاع ضغط الدم والالتهابات وضعف جهاز المناعة.

ثالثاً :أخرِجْ اسوأ مافي داخلك

ان الشخصية التي ترسمها الاستخبارات لمن تكلفه بالتسلل وتزرعه داخل التنظيم المعادي هي شخصة سيئة وشريرة غالبًا وخلاف طبيعته , على سبيل المثال ، بالنسبة لعمليات مكافحة الإرهاب ، يجب على من يتم زرعهم أن يجدوا في داخلهم بذور الصفات غير الجذابة مثل القسوة والأنانية والنفاق من أجل خلق شخصيات مبطنة تحظى بمصداقية لدى الجهة المعادية ، مع تذكر أن الشخصية التي يعيشون فيها ليست هي حقيقتهم , وهذا التلاعب بآليات شخصية الفرد بهذه الطريقة يتطلب الكثير من الضغط النفسي ، ويتطلب طبقات من الوعي الذاتي ، والمراقبة الذاتية ، والانضباط الذاتي.
ان الجواسيس البطوليون يضطرون للكذب والتلاعب خلاف دواخلهم والا سيواجهون انتقامًا رهيبًا إذا تم اكتشافهم , فهم يؤدون فترة خدمتهم السرية من بين أسوأ ما في الإنسانية من سلوكيات , وكثيرًا ما سيكون على الجواسيس في سياقات مكافحة الإرهاب اليوم - من أجل التوافق مع مجموعاتهم المستهدفة - مشاهدة مقاطع فيديو متطرفة مروعة ويكونوا جالسين وسط الارهابيين الاخرين المستمتعين بمايرونه من عنف ويكبرون ويهللون .
هنا يجب على الجاسوس ان يتوافق مع مزاج الارهابيين للحفاظ على غطاءه ، بغض النظر عن مشاعره الشخصية وردود افعاله , وقد كافح أحد العملاء المتدينين بشدة لكتم مشاعر قوية من الغضب والاشمئزاز والتعاطف أثناء مشاهدة مثل هذا الفيديو بينما استقبل الأشخاص المحيطون به كل جز رقبة بالضحك والهتاف والتصفيق والتكبير , فمابالك اذا مامر بتجربة واقعية وليست عبر الفيديو؟.

الرابع :استمرارية المعاناة

مثلما يواجه العملاء مخاطر جسدية خارجية ، فانهم يواجهون العديد من المحن النفسية الداخلية المرهقة , بل ان المخاطر الجسدية والمصاعب تنتهي بمجرد انتهاء مهمة التجسس النشط ، لكن الخسائر النفسية تستمر بعد انتهاء العملية الاستخبارية لاسيما حين تكون طويلة ومليئة بالاحداث والمفارقات والضغوط.
ان عملاء الاستخبارات يعيشون حياة مزدوجة ، مما يتطلب منهم خداع الآخرين بانتظام ، وليس خداع الجهة التي يتجسسون عليها فقط , فليس من السهل على شخص يتمتع بضمير اجتماعي راسخ أن يحافظ على أسلوب حياة ينطوي على التأثير الخفي أو السيطرة على الآخرين من خلال الأكاذيب , فهؤلاء الابطال يتدربون على الشعور بالانفصال عن طبيعتهم ، وهي مشاعر قد تستمر حتى عندما يستأنفون حياتهم الطبيعية بمجرد انتهاء تجسسهم.
ان هذه الأعباء النفسية المتمثلة في الانفصال حادة الانتشار بين الجواسيس الذين عاشوا تحت غطاء مزيف لفترات طويلة ، حيث تكون العلاقات الاجتماعية التي يقومون بها اثناء مهمتهم مزيفة ومليئة بالأكاذيب والتلاعب , وتكون شخصياتهم الحقيقية مدفونة تحت طبقات من السرية , ولا يوجد أحد هناك على علم بوضعهم الحقيقي غير أنفسهم , لقد وصف أحد العملاء الواعين بشكل خاص حالته النفسية أثناء العملية الاستخبارية السرية كشكل من أشكال الحبس الانفرادي داخل جمجمته التي بدت كأنها زنزانته في السجن.

خدمات داخلية


يتمثل أحد ادوار علماء النفس في اجهزة الاستخبارات المحترفة في مساعدة الموظفين لمواجهة التحديات الفريدة التي يتعين عليهم مواجهتها كالمتطلبات الأمنية ، والتدريب المكثف ، والمهام غير التقليدية ، وظروف العمل غير المألوفة ، والتحديات غير المتوقعة والحساسة ، وعبء المهام السرية كالتجسس .
فالعاملون في مجال التجسس والعمليات الخارجية السرية يجدون انفسهم وعائلاتهم في بيئة غير مألوفة أو لا يمكن التنبؤ بها أو غير ودية أو غير صحية أو يحتمل أن تكون خطرة , حيث يُطلب من البعض تحمل المصاعب والمضايقات التي لم يواجهها معظم الناس ويتطلب عملهم العيش والعمل في مناطق من العالم وسط الجريمة والإرهاب والحرب.
هنا يهتم علماء النفس والأطباء النفسيون وغيرهم من موظفي الدعم بسلامتهم العقلية والبدنية منذ بداية العمل , ويقومون بتطوير وتنفيذ قدرات الاستجابة التي تلبي احتياجات الفرد والمتطلبات التنظيمية بالفحص والتقييم والاختيار والاستشارة والتدخل في الأزمات والمشورة قصيرة الأجل والمتابعة والتدريب .
كما يقوم علماء النفس بتقييم جميع المرشحين للعمل في الجهاز الاستخباري لتحديد مدى ملاءمتهم للمنصب وللمهام والتركيز على الاضطرابات السريرية وعوامل الخطر ونقاط الضعف التي قد تؤثر سلبًا على قدرة الفرد على حماية المعلومات السرية والموثوقية والمسؤولية والتحكم في الانفعالات , من خلال المقابلات المنظمة والتاريخ الاسري والاختبار النفسي والبيانات الجانبية لتحديد مدى ملاءمة التوظيف .
كما يشرفون على تدريبات مكثفة لمكلفين بمهام معقدة وخطيرة كالتجسس وسط العدو من خلال بروتوكولات الاختبار والمقابلات لمعالجة نقاط القوة والضعف لكل مرشح فيما يتعلق بالمتطلبات المتوقعة لمهمته , ويسعون لفهم التأثير المحتمل لضغوطات عمليات التجسس ، وتطوير التدخلات الوقائية ذات الصلة ، ومراقبة التأثير الفردي والنظامي ، وضمان توافر الاستشارة والعلاج والمتابعة والتعامل مع الصراع والتغيير التنظيمي والسيطرة على التداعيات النفسية ويولون اهتمامًا خاصًا باحتياجات المكلفين النفسية التربوية , فالمشاكل النفسية التي تحدث في سياق مهمة خارجية لها الاولوية دوماً لدى علماء النفس لضمان عدم التعرض لخسائر في الأرواح وكي لا تتأثر الأنشطة التجسسية للفشل.

خلاصة


التجسس الايجابي عمل بطولي يضع فيه الفرد حياته ومستقبله وامنياته على كف عفريت ويحارب زلة اللسان والجوارح ويسعى لنجاح مهمته لوحده بسلاح الايمان وهي مهمة عظيمة لجنود مجهولين , وقد تتولد لديهم نتيجة مهامهم ازمات وجروح نفسية لابد ان يتولى الجهاز الاستخباري معالجتها والاهتمام بايقاف تدهورها كأقل خدمة يقدمها الجهاز الاستخباري للمضحين الابطال , والله الموفق.


للمزيد انظر :