أحمد العجوز يكتب:المهارات والفنون الاستخباراتية في العهد النبوي وتطبيقاتها المعاصرة — شؤون عسكرية وأمنية

أحمد العجوز يكتب:المهارات والفنون الاستخباراتية في العهد النبوي وتطبيقاتها المعاصرة

أحمد-العجوز-يكتب-المهارات-الفنون-الاستخباراتية-العهد-النبوي-تطبيقاتها-المعاصرة

مقدمة

لا شك أن الواجبات المنوطة برجل المخابرات في العصر النبوي وغيره من العصور متعددة ومتنوعة، ومثقلة لكواهلهم، ولكن حب العمل والإخلاص والتفاني فيه، وحب الدين وحب الوطن قد خفف عنهم، وجعلهم يبذلون الغالي والرخيص في سبيل تحقيق الأمن والأمان للدولة.

لقد قام رجال المخابرات العسكرية الإسلامية في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم بكل ما تم تكليفهم به من واجبات، من خلال حمايتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من محاولات الغدر، ومن خلال الاستطلاع العميق، وإدارته التفاوض مع العدو، والعمليات الخاصة، والحرب النفسية والتضليل للعدو وعمليات الإنقاذ والتأكد من إسلام القبائل، وإخلاء جثامين الشهداء وغيرها من العمليات والفنون الاستخباراتية التي تمارسها أجهزة الاستخبارات في العهد الحديث. ومن أمثلة ذلك وتطبيقاتها المعاصرة ما يلي:

أولا: المصدر المزدوج "العميل المزدوج"

زراعة المصادر من أهم وسائل جمع المعلومات في العمل الأمني والاستخباري، ومعلوماتها أكثر دقة وأقرب إلى الصحة والواقعية إذا أحسن اختيار المصدر المزروع.

والزراعة: تجنيد مصدر من نفس أبناء المنطق أو الدولة المراد جمع المعلومات عنها، ومعرفة ما يدور داخلها ويحاك ضد الدولة التي قامت بالزراعة. (أحمد، 2006، ص 126)

أثناء حصار الأحزاب للمدينة هدى الله تعالى الصحابي الجليل نعيم بن مسعود من قبيلة غطفان للإسلام، وكان فضل الله عظيما؛ حيث جاء هذا الصحابي في صمت تام وأعلن للرسول إسلامه وطلب أي تكليف من الرسول. وكان نعيم بن مسعود معروفا بين اليهود وقريش والقبائل العربية وكان ضمن ممن اشتركوا في بداية الحصار ضد المسلمين، وبالتالي فهو فوق أية شبهات وبعيدا عن أي شك.

كانت خطة الرسول صلى الله عليه وسلم هي؛ تفكيك التحالف بين الأحزاب وتفريق رأيهم وهنا كان توجيهه للصاحبي الجليل أن يفك هذا التحالف دون أن يعلن إسلامه، مقرا له أن الحرب خدعة وله كافة الحرية في اتخاذ أي أسلوب لتصعيد الخلاف بين هؤلاء الأحزاب.

انحصرت خطة الصحابي نعيم بن مسعود في تحقيق هدف الوقوع بين الأحزاب وزرع الشك فيما بينهما مستغلا المحاور التالية:

المحور الأول: اليهود 

ولأنه يعلم نقطة الضعف في الجبهة الإسلامية الداخلية؛ هي اليهود، وحتى يقوم بتأمين خليفة المسلمين كبداية صحيحة، فقد توجه إليهم، ولأنه أهل ثقة إليهم فقد أبلغهم أنه على علم أن قريش وقبائل العرب تزمع الانسحاب، وأنهم في أول فرصة سوف يرحلون ويتركون اليهود لمحمد وأصحابه "بحد تعبيره" ثم طلب منهم حتى يضمنوا عدم فرار الأحزاب أن يطلب اليهود رهينة من جيش التحالف كضمان لهم، وحدد لهم سبعين رجلا من قريش وكل قبيلة من الأحزاب.

وقع هذا القول في نفوس اليهود موقع الذعر والرضا؛ الأول من جيش التحالف وغدره، والثاني الرضا لموقف الصحابي نعيم بين مسعود، والذي يبحث عن أمنهم ومصلحتهم وقرروا التمسك برأيه شاكرين له فضاه وجميله لهم.

المحور الثاني: قريش 

توجه الصحابي الجليل فطلب مقابلة أبي سفيان بن حرب قائد جيش قريش وكبيرها، ثم أبلغه ومن معه بأنه علم أمرا ينبغي إبلاغهم به، وأنه علم أن حلفاء قريش من يهود بني قريظة تصالحوا مع الرسول على أن يسلموه سبعين رجلا من أشراف قريش والعرب كاعتذار منهم، ويسلمونهم للرسول صلى الله عليه وسلم ليقتلهم باعتبار ذلك دليل ولاء لهم للرسول وندم على نقضهم عهدهم معه.

المحور الثالث: قبائل العرب غطفان وغيرهم 

توجه لقبيلته والتي كانت تعتبر قوة عظمى بين القبائل فأبلغهم باعتزام اليهود طلب سبعين رجلا من قريش وغطفان لتسليمهم إلى الرسول وقتلهم وذلك ندما على نقضهم لعهدهم معه.

اتفقت كلمه زعماء جيش الأحزاب على إرسال وفد ليهود بني قريظة بحجة إبلاغهم بالاستعداد لبدء المعركة والهجوم على المسلمين في اليوم التالي "جس النبض"، وبالفعل طلب منهم اليهود أن يسلموهم سبعين رجلا من أشرافهم كضمان لعدم تركهم ميدان الحرب وترك اليهود فريسة سهلة للمسلمين.

تفكك الأحزاب تماما وبدأت كل قبيلة في جمع حاجاتها استعدادا للعودة بعد أن تأكدوا من صدق الصحابي نعيم بن مسعود. (حسين،2010، ص ص 242 - 243).

التطبيق المعاصر على استخدام المصدر" العميل" المزدوج

كشفت كتائب القسام في السابع عشر من ديسمبر عام 2019 عن عملية " السراب"؛ حيث بثت الكتائب فيديو على قناة الميادين اللبنانية، تضمن مشاهد لإدارة مخابرات القسام العسكرية عملية أمنية ضد الاحتلال الإسرائيلي، دارت أحداثها بين عامي 2016، 2018 ومن خلال الفيديو تمكن القسام من إفشال مخطط عبر أحد العملاء لتدمير منظومة الصواريخ التي تملكها كتائب القسام، ونجحت استخبارات القسام في تجنيد العميل.

وظهر مسؤولون من استخبارات القسام غير مكشوفي الوجه وهم يتحدثون بالتفصيل عن سير العملية منذ بدايتها وحتى نهايتها، وأخرى لضباط تابعين للاحتلال وهم يثنون على "العميل المزدوج" ويبلغونه شكر كبار قادة الجيش والأمن، قبل أن يفقد أحدهم أعصابه في النهاية على ذلك الشاب "العميل المزدوج" لعدم نجاح المخطط، ليبلغه الشاب في نهاية الاتصال الأخير، بأن الأمر كان يسير وفق ترتيب من استخبارات كتائب القسام العسكرية.

وهذه العملية الاستخبارية هي الأولي التي تكشف عنها القسام، حيث اعتادت أن تكشف عن عمليات عسكرية مسلحة في السابق، خاصة وأن عمليات تضليل المخابرات الإسرائيلية وفق ما أعلنت القسام نجحت على مدار أكثر من سنتين.

وعقب مسؤول في استخبارات القسام عن العملية بالقول: "بعد أكثر من عامين اكتشف الإسرائيليون أن المقاومة كانت تخدعهم وبات جزء كبير من الجهد الأمني الإسرائيلي مكشوف لدينا".

وكشف الفيلم أيضا نمط التوجيه والتحكم الذكي في المصدر وتمريره رسائل الخداع لضابط الشباك رغم خطورة الموضوع وحساسيته وتعقيداته، وتعكس العملية تفوق قدرات المقاومة على الصعيد الاستخباري في معركة صراع الأدمغة من خلال قدرتهم على تضليل المشغلين مع ضباط الاحتلال. (قناة الميادين على موقع اليوتيوب-2019 )

ثانيا: مكافحة التجسس "الاستخبارات الوقائية - المضادة"

مكافحة التجسس من أولويات عمل أجهزة الاستخبارات؛ لدرء الخطر عن الدولة ومؤسساتها العسكرية، باعتبارها المطمع الأول للعدو وهدفه الأول للاختراق، فالاستخبارات الوقائية المضادة هي إصلاح شامل لجميع الإجراءات والعمليات التي تقوم بها الدولة لتحصين أمنها ووقاية أسرارها من نشاط الجواسيس والتخريب من أجل المحافظة على أسرار الدولة في الداخل والخارج، ويطلق عليها أحيانا الاستخبارات المضادة وتشمل الاستخبارات الوقائية الآتي:

- استخبارات الأمن ومسؤولياتها مكافحة التخريب المادي والفكري ومكافحة التمرد والتآمر والنشاط الهدام، والأمن بمفهمة الشامل من الأمن الشخصي وأفراد ومنشأت ومعلومات الخ.

- مقاومة التجسس، ويعتبر نشاط الاستخبارات الإيجابي مكملا للوقائي؛ فكل منهما مكمل للآخر، فإذا افترضنا أن دولة ما أقامت في بلادنا تنظيما للتجسس وكانت متابعة هذا التنظيم من صميم اختصاص فرع مقاومة الجاسوسية التابع للاستخبارات الوقائية المضادة.

- ولو افترضنا أن استخباراتنا نجحت في التسلل إلى شبكة تجسس العدو وتمكنت من الوصول إلى مركز يمكنها من قراءة المراسلات والتوجيهات التي ترد إلى منظمة الجاسوسية، فإن هذه الوثائق لن تكون مجرد وثائق تبين نشاط العدو إنما من المحتمل أن تكشف عن قدر كبير من نشاطه العام وسياسته وخططه وقد تحتوي على معلومات هامة ظلت الاستخبارات الإيجابية في حاجة إليها وقتا طويلا. (المحمد، 1986، ص ص 56 - 57)

مكافحة وإحباط التجسس في السنة النبوية 

يتمثل نشاط مكافحة التجسس؛ في منع تسريب المعلومات إلى غير المسؤولين ثم إلقاء القبض على العملاء والجواسيس وإيقاع العقوبات التي تراها في ردعهم وردع أمثالهم ولعل من الأمثلة على ذلك في السنة النبوية

إحباط محاولة تجسس حاطب بن أبي بلتعة لصالح قريش

عندما أكمل النبي صلى الله عليه وسلم استعداده للسير إلى فتح مكة، كتب حاطب بين أبي بلتعة كتابا إلى أهل مكة يخبرهم فيه بنبأ تحرك النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ولكن الله سبحانه وتعالى أطلع نبيه عن طريق الوحي على هذه الرسالة، وقضى صلى الله عليه وسلم على هذه المحاولة وهي في مهدها، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليا والمقداد فأمسكوا بالمرأة على بعد اثني عشر ميلا من المدينة، وهددوها أن يقتلوها إن لم تُخرج الكتاب، فسلمته لهما ثم استدعى حاطب للتحقيق. (الصلابي، 2001، ص 452)

وكر التجسس البيزنطي

ومن الأمثلة أيضا على كشف النشاط الاستخباري المعادي الذي نجح فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ كشفهم لخطة بيزنطية دقيقة لتأسيس وكر للتجسس عليهم، فبعد تسع سنوات فقط من تأسيس الرسول دولة الإسلام في المدينة، أمر البيزنطيون أحد عملائهم في المدينة وهو القس "أبو عامر الخزرجي" أن يؤسس ما يمكن أن نسميه "محطة" لهم يستطيعون من خلالها رصد أصحاب الرسول والتخطيط لهدم ما شيدوه من بنيان، وهكذا أمر الفاسق خلية المدينة ببناء مسجد جديد ليكون ملاذا أمنا له ولعملائه، وكان الغرض الظاهري وراء بناء المسجد الجديد أنه سيلبي احتياجات المسلمين الدينية، وهكذا كان اختيار للمسجد كغطاء؛ ينم عن مكر شديد، لا سيما أن الموقع الذي تم اختياره ليكون وكرا للتأمر كان بالقرب من مسجد قباء.

وأمر هذا القسيس بعض أتباعه بأن يطلبوا من الرسول أن يفتتحوه ويبارك لهم مسجدهم بالصلاة فيه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب منهم التريث وأن يؤخروا ذلك إلى وقت أخر، حيث كان المسلمون في سفر إلى تبوك يتأهبون لمقاتلة الروم، وعندما تبين أمر مسجد "ضرار" أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بهدمه. والعبرة المستخلصة هنا هي أن مباغته الأعداء قبل أن يمسكوا زمام المبادرة خيار إسلامي متين. (الأسمري، 2018، ص ص 124 - 125)

مكافحة وإحباط التجسس في الوقت المعاصر

من أبرز عمليات مكافحة وإحباط التجسس في الوقت المعاصر هي عملية حد السيف؛ ففي 11 نوفمبر 2018 أحبطت كتائب القسام الذراع العسكري لحركة حماس عملية لقوة خاصة بوحدة "سيرت متكال" تسللت شرق خان يونس جنوب قطاع غزة بهدف زرع منظومة تجسس للتنصت على شبكة اتصالات المقاومة، وسجلت كتائب القسام مفاجأة بكشف القوة وما تلا العملية من إعلان هوية ونشر أسماء وصور عناصر الوحدة الخاصة ما دفع لإخراجهم من الخدمة" (الشافعي،2021)

واكتشفت القسام العديد من أدوات ووسائل العدو الاستخبارية في قطاع غزة، فاستطاع مهندسو القسام اختراق وحدة "سيرت متكال" والولوج لمعلوماتها الخاصة، وواصلت العمل المستمر برفقة أجهزة الأمن على تحجيم وضرب قدرات العدو، كل ذلك يرجع لتميز استخبارات المقاومة وأجهزتها الفنية التي تتشكل بصورة تتلاءم مع متطلباتها كفصائل مقاومة.

كل ذلك تم ضمن صمت استخباري للمقاومة لتحقيق معادلة الموازنة بين المهم والأهم، وهي مهمة دقيقة للغاية وتتطلب ضبط الأعصاب ودقة التقييم، وتفكيك شيفرا وخيوط العملية وإنتاج المعلومة الاستخبارية الموجهة للعدو لإرباكه والتدليس عليه وايهامه وفضحه وكسر هيبته، وتحصين الحاضنة الشعبية، عملية حد السيف برهنت على براعة عقول القسام الاستخبارية وتمتعها بقدرات واسعة ومعرفة بعلم النفس وطبيعة العدو الداخلية.

إن فضح وكشف القوات الخاصة الإسرائيلية، وما تبع ذلك من جهد أمني من شأنه تقويض الشبكات الإسرائيلية التي كانت تقوم بجمع المعلومات عن المقاومة، ومما لا شك فيه أن خسارة هذا الكنز الاستخباراتي سيجعل من الصعب على "إسرائيل" التعامل مع ما تعده المقاومة من خطط وجهد عسكري ضدها في الداخل والخارج، وفق ما تكشف عنه في عملية حد السيف من فشل وإخفاق استخباري إسرائيلي، قاد القسام إلى تحقيق إنجازات ونجاحات متعددة على غير صعيد. (أبو زبيدة، 2019)