د. مصطفى يوسف اللداوي يكتب: التدخلُ الفلسطيني المحمودُ والتدخلُ المرفوضُ — شؤون عسكرية وأمنية

د. مصطفى يوسف اللداوي يكتب: التدخلُ الفلسطيني المحمودُ والتدخلُ المرفوضُ

د-مصطفى-يوسف-اللداوي-يكتب-التدخل-الفلسطيني-المحمود-والتدخل-المرفوضُ

لا تنفك المنطقة العربية على مدى الأيام كلها، من طنجة في المغرب العربي إلى بوابة العرب الشرقية في العراق، تغلي بالأحداث الجسيمة والتطورات الكبيرة، وتنتابها تغيرات كثيرة، تميد بها أرضها، ويضطرب بسببها أهلها، وينقسم شعبها، وتتغير أحوالها، وتتبدل أشكالها، وتنعكس نتائجها على مساراتها، وتنقلب على إثرها حياتها، وتنقلها من مسارٍ إلى آخر، ومن سياسةٍ إلى أخرى، وقد تسلمها من نظامٍ إلى غيره، لا يتفق مع سابقه ولا يتوافق معه، بل ينقلب عليه ويحاربه، ويجتثه ويعزله، ويعتقل رموزه ويعاقب قيادته، ويعادي كل من حالفه وأيده، أو كان معه وناصره، مواطنين محليين كانوا أو عرباً مؤيدين، فيقسو عليهم الجديدُ ولا يرحمهم، ويحاسبهم ولا يسامحهم، ولا يغفر لهم ماضيهم ولا يتفهم مواقفهم، رغم حسن نيةِ بعضهم وسلامة قصدهم.

قد يكون من الطبيعي جداً أن تعلق الحكومات على ما يقع في بعض البلاد، وأن يكون لها موقفٌ منها، تأييداً أو رفضاً، واستنكاراً أو إدانة، أو صمتاً وحياداً، كالانقلابات الحادثة، أو الانتخابات الجارية، أو الاعتقالات الأمنية والتعسفية، وعمليات الاغتيال والتصفية، والافتئات على حقوق الإنسان والاعتداء عليها، أو الصراعات الداخلية والحروب البينية، والحملات العسكرية ضد المجاميع الوطنية والفئات السكانية، وغير ذلك من الحوادث التي تتعرض لها الدول وتمر فيها، مما يستلزم ردود فعلٍ دوليةٍ، أو تدخلاً من مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة، والمنظمات الدولية.

قد يبرر البعض للدول والحكومات تدخلها في بعض الأحداث، والتعليق عليها أو التعقيب على نتائجها، والتحذير منها وتسليط الضوء عليها، كونها دولاً كبرى، ولديها مصالح ومنافع في المنطقة محل التدخل، تخشى فيها على مكتسباتها أو نفوذها، وتقلق من اضطراب الأوضاع فيها، مما يدفعها للتدخل المباشر أو غير المباشر، وبوسائل عديدة ومختلفة، ولكن تدخلها قد لا ينعكس سلباً عليها، ولا يؤثر على مصالحها، أو يضر مواطنيها، أو يتسبب بأذى أمني أو مادي لها، بسبب قوة الدولة المتدخلة، أو ضعف الدولة محل التدخل، وبالتالي لا تكون هناك أي مخاوف أو مغامرات نتيجة تدخلها السافر أو اللطيف.

الدول مخيرة دائماً في سياستها الخارجية، وهي غير مضطرة أن تمضي على نسقٍ واحدٍ، فهي تعتمد على ميزان مصالحها الحساس، الذي تستطيع به أن توجه بوصلتها، ولكنها غالباً ما تكون حكيمةً في مواقفها، دقيقةً في قراراتها، مضبوطةً في أحكامها، وفق مصالحها المرجوة، ومنافعها المتوقعة، وأطماعها المأمولة.


هذه السياسة لا تنطبق على الفلسطينيين أبداً، الذين يلقون الدعم الكبير من جميع الشعوب العربية بلا استثناء، ويتمتعون بمكانةٍ مرموقةٍ لديهم، ويتلقون منهم الدعم المادي والإسناد المعنوي، ويشعرون أن هذه الشعوب تمثل عمقهم ورصيدهم، وسندهم وظهيرهم، إذ عاشوا معهم طويلاً، ونشأوا بينهم أجيالاً، فلا يجوز الانقلاب عليهم وخذلانهم، أو الالتفاف عليهم والإضرار بمصالحهم، أو الاصطفاف مع فريقٍ منهم ضد آخر، أو المساهمة في معاركهم الداخلية كطرفٍ، والمشاركة معهم ضمن فريقٍ، كما أنه ليس من الحكمة والمنطق، ولا من العقل والحصافة، أن يصدر الفلسطينيون، سلطةً وفصائل، ومؤسساتٍ ومنظماتٍ، مواقف سياسية تؤيد فريقاً وتحابيه، وتعارض آخر وتجافيه.

في ظل الحوادث الداخلية التي تمر بها الدول العربية، كالقلاقل والاضطرابات، والانقلابات والاشتباكات، والشكاوى ودعاوى حقوق الإنسان، لا يبرر للفلسطينيين في ظل قضيتهم التي تراها الشعوب العربية مقدسة، ويريدون منها أن تبقى بمنأى عن أي خلافٍ، وبعيدةً عن أي صراعٍ، أن يدنسوها بمواقف سياسية مؤيدة أو معارضة، أو يلوثوها بالتدخل السافر والاشتراك المباشر، فالقضية الفلسطينية يجب أن تبقى محل إجماع العرب واتفاقهم، وموضع ثقتهم وتقديرهم، فلا يجوز إقحامها في أحلافٍ أو محاور، أو إرغامها على أن تكون طرفاً في الحوادث وشريكاً مع المتقاتلين.

فقد عانى الفلسطينيون كثيراً في سني نضالهم الطويلة، ومسار قضيتهم المعقد، من بعض التدخلات في الشؤون العربية، التي لم يكن لنا بها ضرورة أو حاجة، فدفع شعبنا من قضيته أثماناً كبيرة بسببها في الأردن ولبنان، نتيجةً لتورطهم في المعادلات الداخلية للبلاد، ثم دفعوا الثمن أكبر في العراق والكويت، نتيجةً لاصطفاف قيادتهم مع فريقٍ ضد آخر، دون مراعاةٍ لحساسية القضية الفلسطينية، ومكانة فلسطين وأهلها، وتواجد أبنائها وشتاتهم، فكانت النتيجة تشريداً جديداً وضياعاً آخر، لكنه كان تشريداً مؤلماً ومزمناً، وقاسياً وصعباً، عانى الشعب من آثاره وتداعياته سنين طويلة.

اليوم لا يكاد يخلو بلدٌ عربي من الأزمات والمشاكل، والتحديات والصعاب، سواء كانت اضطراباتٍ داخلية، وحراكاتٍ شعبية، أو انقلاباتٍ عسكرية، أو نزاعاتٍ سياسيةٍ، أو حصر للسلطات وتعطيل للدستور والبرلمانات، أو عملياتٍ عسكرية ومعارك حربية، أو نزاعاتٍ بينية وخلافاتٍ على الحدود والنفوذ، أو تحالفاتٍ ومحاور، وعلاقاتٍ خارجية وولاءاتٍ أجنبية، تظهر كلها بحدةٍ وغلظةٍ في الخطاب السياسي والإعلامي، وفي التعبئة الجماهيرية والتحريض الشعبي، الأمر الذي جعل الساحات العربية كلها ساحات حربٍ وجبهات قتالٍ، اختلط فيها الخصوم واحتدمت بينهم المعارك، وساد شعار من ليس معنا فهو ضدنا، ومن لا يؤيدنا فهو عدونا، ومن لا يقاتل معنا ويكون في صفنا فهو ليس منا.

أمام هذه الخارطة المتشعبة الخيوط، الدامية الأحداث، المذيلة بالدماء، والموقعة بالخراب، التي لن ينجو من ويلاتها أحدٌ ما لم يتفقوا، ولن يسلم منها بلدٌ ما لم يعقلوا، ينبغي على القيادة الفلسطينية عموماً، سلطةً وفصائل وتنظيمات، كما النخب السياسية والإعلامية والشخصيات البارزة والفعاليات، أن تقف على الحياد التام من كل ما يجري، وألا تساهم في أي أزمةٍ أو صراعٍ بالكلمة أو السلاح، وبالموقف أو الاصطفاف، وأن يلتزموا سياسة النأي بالنفس عن أي مستنقعٍ قد يضر بهم وبقضيتهم، اللهم إلا أن يكونوا وسطاء خيرٍ بين الفرقاء، ورسل سلامٍ بين الأطراف.