العميد الركن أحمد رحال: أمريكا تعود للخليج ... بخطوة نحو الخلف — شؤون عسكرية وأمنية

العميد الركن أحمد رحال: أمريكا تعود للخليج ... بخطوة نحو الخلف

العميد-الركن-أحمد-رحال-أمريكا-تعود-للخليج-بخطوة-نحو-الخلف

المتابع لخطوات التوغل الصيني والروسي في مفاصل شؤون الشرق الأوسط, والصفقات الاقتصادية الكبرى التي عقدتها بكين مع طهران وبعض دول المنطقة، والاندفاعة العسكرية الروسية في سوريا, ومحاولتها لعب أدوار مهمة في الملفات السياسية والاقتصادية لبعض دول الشرق الأوسط, يدرك أن موقفاً أمريكياً جديداً كان لا بد أن يُؤخذ في المطبخ السياسي في واشنطن يعيد للولايات المتحدة مكانتها وسطوتها وتفردها، بشراكة وتحالف مع كامل ملفات الخليج والدول المحيطة بها على مدى عدة عقود فائتة!

قرار العودة الجديد يأتي بعد سنوات من الركود بعلاقة واشنطن مع حلفائها في المنطقة بدأت ملامحه في الولاية الثانية للرئيس "ترامب" وبدا واضحاً مع الأشهر الأولى لولاية الرئيس "بايدن", تلك الابتعادة عن حلفاء لطالما وصفتهم واشنطن سابقاً بالحلفاء الاستراتيجيين لواشنطن, تلك الاستدارة دفعت ببعض الدول العربية للبحث عن مخارج أخرى، وخيارات أخرى, تضمن استمرار وجودها ومصالحها إذا ما كان هناك تخلٍ أمريكي عن منطقة الشرق الأوسط لصالح الصين وروسيا, خاصة بعد الانسحاب الأمريكي المفجع من أفغانستان, وخيبة الأمل السعودية التي تضاف لتزعزع ثقة دول المنطقة بالسياسة الأمريكية، رافقها قرار أمريكي غريب تمثل بوقف زيارة لوزير الدفاع الأمريكي للمملكة العربية السعودية كأهم حليف للأمريكان في المنطقة, بعد أن كانت الزيارة مقررة ومن ضمن جدول زيارة ومواعيد وزير الدفاع "اوستن", وقرار وقف الزيارة يأتي بمنحى أمريكي لم تعرف عواقبه وأسبابه بعد.

تصريحات وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن في كلمة من البحرين (السبت الفائت) التي أكد فيها على ثوابت الولايات المتحدة من حيث التزامها بأمن المنطقة ومواجهة إيران, تمثل تموضعاً جديداً وخطوة نحو الخلف لعودة للاستراتيجية الأمريكية التي سادت المنطقة خلال العقود السابقة.

الاستدارة الأمريكية الجديدة لم تحركها الدوافع الاقتصادية الأمريكية ولا المصالح الضيقة, بل أتت بناءً على قراءة استراتيجية لصانعي القرار الأمريكي والدولة العميقة, وبناءً على معطيات وحقائق على الأرض غيرت وهزت صورة الولايات المتحدة الأمريكية ليس أمام حلفائها من زعماء وقادة المنطقة فقط, بل حتى من قبل شركائها الأوروبيين وفي كندا وأستراليا واليابان.


تصريحات وزير الدفاع الأمريكي "أوستن" التي حملت في طياتها تغيراً كبيراً في طريقة تعاطي الولايات المتحدة الأمريكية مع قضايا وأمن شركائها في المنطقة, وعن التزامها بمواجهة "زعرنات" إيران سواءً كانت في مياه الخليج العربي أو في خليج عُمان ومضيق هرمز أو في بحر العرب وخليج عدن, وبكامل مغامرات طهران الأخيرة لجر المنطقة لحروب طويله, عندما قصفت منشآت "أرامكو" في المملكة العربية السعودية نهاية العام الماضي, أو عبر تهريب السلاح ودفع حليفها الحوثي لتعديات شبه يومية عبر طائراتها المسيرة والتي استهدفت الحرم المكي (المسجد الحرام في مكة المكرمة) ومطارات مدنية ومنشآت نفطية داخل أراضي المملكة, "الحوثي" الذي رفعت عنه إدارة الرئيس الأمريكي "بايدن" صفة الإرهاب كخطوة استفزازية لحلفائها السعوديين والإماراتيين. تلك الخطوة البائسة التي أتت بعد قرار أمريكي صادم آخر تمثل بوقف الدعم العسكري الأمريكي للتحالف العربي الذي يساند الحكومة الشرعية في اليمن ضد عصابات حوثية تبحث عن ترسيخ قدم إيرانية في الجغرافية اليمنية تساهم بزعزعة سيادة كامل دول الخليج.

كلام وزير الدفاع في البحرين ورغم مروحة العطايا الواسعة من الدعم الذي وعدت به إدارة "بايدن" عبر تصريحات وزير دفاعها, إلا أن ما يعيبها أنها أتت جافة دون وعود بنشر قوات أمريكية جديدة, أو فتح بوابة التذخير والتسليح وصفقات سلاح جديدة تحتاجها دول المنطقة لمواجهة الآلة العسكرية الإيرانية التي باتت تهدد كامل دول المنطقة, وباتت ميليشياتها تحتل أربعة عواصم عربية, واحتوت تصريحات "اوستن" في البحرين فقط على وعود بتحسين منظومة الدفاع الجوي لدول الخليج, بمعنى أنها ما زالت تدفع بحلفائها للبقاء في خندق الدفاع والتصدي لتعديات إيران, دون تمكين تلك الدول من امتلاك مخالب التأثير والانتقال للهجوم على أقل تقدير واحتمال, وأهم ما قاله أوستن في الكلمة التي ألقاها في البحرين خلال رحلة إلى الخليج:

"لنكن واضحين: التزام أمريكا الأمني في الشرق الأوسط قوي ومؤكد, والمستقبل سيحمل مزيداً من العمليات المتعددة والمتكاملة بشراكة مع حلفائنا في المنطقة رغم اهتمام واشنطن حالياً بمواجهة أخطار الصين, وعلى الرغم من التزام واشنطن بإحياء الاتفاق النووي مع إيران لعام 2015 وفق شروط جديدة تضمن عدم امتلاك إيران لسلاح نووي, وتحجيم المشروع الصاروخي الإيراني, ووقف التمدد الإيراني عبر ميليشياتها خارج الحدود, مهدداً بنهاية حديثه بخيارات أخرى للحفاظ على أمن الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها إن فشلت الجهود الدبلوماسية".

الدول الخليجية التي فُجعت باتفاق "أوباما" النووي مع إيران عام 2015, لم تعد تريد أن تبقى في مقاعد المتفرجين مع اتفاقيات ومفاوضات هي من تكتوي بنارها, وتدفع أثمانها, من أمن واستقرار المنطقة واستقرارها الداخلي, وبالتالي طالبت دول المنطقة وعبر أكثر من مسؤول خليجي وعربي أن تكون ضمن فعاليات التفاوض في "فيينا" مع إيران, وأن تشمل بنود التفاوض الجديد المشروع الصاروخي الإيراني المزعزع لاستقرار المنطقة, إضافة لسحب كامل ميليشيات إيران من الخارج (العراق, سوريا, لبنان, اليمن) ووقف سلوكها الاستفزازي وخلاياها النائمة التي تحركها ببعض العواصم الخليجية والعربية, وأن ترتبط طهران مع جيرانها العرب بعلاقات حسن جوار وعدم تعدٍ وعدم تدخل في الشؤون الداخلية.

الشأن السوري حضر في كلمة وزير الدفاع الأمريكي وإن كان بصورة غير مباشرة, فواشنطن تدرك أن التحرك الأردني الأخير وفتح بوابة أردنية دبلوماسية واقتصادية وسياسية لعودة الأسد للجامعة العربية, وكذلك زيارة وزير الخارجية الإماراتي لدمشق مع ما تحمله من مكاسب اقتصادية وسياسية لنظام بشار الأسد, ما كانت تلك الزيارات لتتم لولا التهاون الأمريكي والانعطافة الأمريكية عن قضايا المنطقة وملفاتها وخاصة الملف السوري, الذي غاب غياباً شبه كاملٍ عن مفردات الاستراتيجية الأمريكية "الديموقراطية" بعد دخول "بايدن" رئيساً للبيت الأبيض, وبالتالي وجدنا نبرة عالية بكلمة وزير الدفاع "أوستن" بكلمته في البحرين, والذي أكد فيها على صرامة تنفيذ قانون "قيصر" من قبل واشنطن ووزارة الخزانة الأمريكية, وأن العقوبات الأمريكية ستطال كل من يخرقه, بإشارة واضحة للإمارات وغيرها من الدول العربية أو الإقليمية التي تفكر بمد أطواق النجاة لنظام متهالك في دمشق, وإن عاب هذا الكلام لوزير الدفاع أن تصريحاته وتهديداته لا تعود مسؤولية إطلاقها على وزارة الدفاع الأمريكية عادة, بل يتخصص بها البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية فقط وفقط لا غير.

مقولة: أن تصل متأخراً خيراً من ألا تصل أبداً, تنطبق على الولايات المتحدة الأمريكية اليوم, باستدارتها وعودتها لحلفائها إن صدقت وعود وزير دفاعها, فالمنطقة لا تحتمل تغيير الاستراتيجيات, ولا تحتمل وجود الدب الروسي المنهك بعقوبات واندفاعات ومغامرات غايتها إثبات وجوده كقوة إقليمية عظمى وليس دولة عظمى, وإن جل اهتمامات "بوتين" الاستثمار في ملفات المنطقة وطرحها أوراقاً ضاغطة في مفاوضاته مع الأوروبيين, ولرفع عقوبات واشنطن عن موسكو, دون أدنى تفكير بالبحث عن حلول بدليل وجوده مع قواته الجوية والبرية والبحرية في سوريا منذ عام 2015, وما زالت آلته العسكرية تحصد أرواح السوريين بانحياز واضح للأسد والحلفاء في طهران والضاحية الجنوبية رغم إقراره بأن نظام الأسد والإيرانيين عطلوا كل المفاوضات السابقة وآخرها تخريب الجولة السادسة لعمل اللجنة الدستورية, والصين أيضاً لم تكن يوماً حليفاً عسكرياً لأحد, وإن جل توجهاتها تعتمد على مصالحها الاقتصادية فقط.

ومن جهة أخرى فمنطقة الشرق الأوسط (شئنا أم أبينا) يدور معظمها بالفلك الأمريكي اقتصادياً وسياسياً, والمناورات البحرية التي جرت مؤخراً, واشتركت فيها البحرية إسرائيلية ودول عربية كالبحرين والإمارات إضافة للولايات المتحدة الأمريكية في البحر الأحمر لم تكن بعيدة عن "طبخات واشنطن", وكل التطبيع السابق مع إسرائيل من قبل دول تدور بالفلك الأمريكي أيضاً لم تكن بعيدة عن تشجيعات من واشنطن, وبالتالي أمام هذا الواقع سواءً قبلنا به أم رفضناه تبقى للولايات المتحدة الأمريكية الحظوة الأكبر بالعودة لتحالفات تاريخية مع دول لم تقصر يوماً بدعم التوجهات الأمريكية, لكن يبقى على واشنطن ألا تخيب آمال المتدثر بالعباءة الأمريكية, ونسف مقولة "المتغطي بلحاف الأمريكان بيبرد", لأن القواسم المشتركة المهددة للأمن القومي الأمريكي والأمن القومي العربي لدول الخليج واحدة تتمثل بوقف تحرشات إيران, وكبح "مغامرات" ميليشيات إيران, وتهديدها للملاحة العالمية بمياه الخليج العربي وخليج عمان وبحر العرب.

إن الاحتياجات المشتركة تلزم واشنطن بوضع خطة عسكرية بحرية_جوية مشتركة, تشارك فيها الولايات المتحدة الأمريكية وكل القطع البحرية للأساطيل العربية لدول الخليج لوقف التهديدات الإيرانية, ومن ثم الانتقال لخطة عمل موحدة تلبي متطلبات أمن الخليج ومطالب الاستقرار والأمن الدوليين لتُقدم لإيران باجتماعات مفاوضات "فيينا", بوحدة قرار عربي أمريكي وإصرار أوروبي لوقف برنامج إيران النووي, وتجميد مشروعها الصاروخي, وسحب أذرعها الإرهابية من كامل دول الجوار, والبحث المشترك (أمريكياً_عربياً) عن حلول لدول المنطقة وأهمها وقف المقتلة التي يتعرض لها الشعب السوري على يد نظام الأسد بدعم إيراني وروسي منقطع النظير.

المصدر: موقع أورينت